ترتسم في هذه الحقبة من تاريخ بلادنا والمشرق العربي، معطيات جديدة للصراع وللقضية الفلسطينية، لعل أبرزها، انحسار دور التيار المدني، الوطني والقومي، والمد الغامر للتيار الأصولي عندنا وعند عدونا القومي. وكان من بين أحد أهم أسباب التقدم الكبير للأصولية عندنا، هو ما شهدته إسرائيل، من تراجع لأسلاف التيار الزمني الذي نجح في تأسيس الدولة، وقادها أثناء كل حروبها، لصالح تيار أصولي ليس لديه ما يفعله سوى إخراج الصراع من سياق السياسة، وارتداده الى بدياته العنفية، وتكريسة الى يوم قيام الساعة.
النخب السياسية العربية الحاكمة، وتلك التي في أطراف الحكم وفي ظلاله؛ لم تعد قادرة على مد الجسور مع كتل شعبية هائمة ومجروحة، ما أتاح للأصوليين المتطرفين التوغل ونقل مشروعهم المجنون من الأقبية الى الساحات العامة ميادين القتال. 
وليس سراً أن الأصوليات الناشطة، في المشرق العربي وإسرائيل؛ قد استفادتا من أوساط تنكرت لفكرة الدولة المدنية وخانتها. بعض عناصر هذه الأوساط، كانت ترفد الأصوليين بما يساعدهم على تلبية أكلاف محاولة فرض مشروعهم، إما تكفيراً عن ذنوب، في محاولات ساذجة لا تستند الى الشرع الصحيح، للتقرب الى الله، أو تنفيساً لأحقاد، أو ضلوعاً في مؤامرة لتفتيت المشرق العربي. وفي سياق هذه الأصولية المتطرفة، طُرحت معالم وشروط للأسلمة الجديدة، التي رأت حتى في مشروع "الإخوان" انحرافاً فاضحاً. 
المحتلون عندما بدأوا هجمتهم على فلسطين، لم يكونوا يهوداً متدينين. كانوا علمانيين استعانوا بالديانة لتحفيز المواطنين اليهود في البلدان متدنية التطور والنمو، للهجرة الى فلسطين. كان مشروعاً إمبريالياً بامتياز، اتخذ لنفسه واجهة دينية. هذا المشروع، في واقع إسرائيل التي تعربد اليوم، بات يستهتر بالإمبريالية نفسها، وبالعلمانيين، فأحل "اليهودية" محل "الديمقراطية" المزعومة. ومثلما يكون لكل هؤلاء، في كل مرحلة، خونة يساعدونهم؛ فقد كانت المساندة الأميركية لهم، أكثر من كافية للاستحواذ على طرفي الصراع، وجعل بؤس العرب، على الطرف الذي يُفترض إنه ضدهم، رديفاً لهم بهذا الشكل أو ذاك، في السياسة وفي تأمين إسرائيل التي تعربد، من الأخطار!
على هذا الخط، وفي موازاة الهوان العربي، انفتحت الشهية الإيمانية، لشرائح واسعة في المجتمع العربي، على المزيد من التطرف، ليس من أجل مواجهة نقيضها اليهودي في فلسطين، وإنما لكي تنقضَّ على نقيضها الأيديولوجي في كل بلد، حتى وإن كان هذا النقيض إسلامياً. 
أما بالنسبة الى فلسطين، فإن الداعشية اليهودية، ألقت بظلالها القوية على المجتمع الفلسطيني الذي لا يملك وسائل وفرصة انتاج داعشيته الخاصة. لكن أسوأ ما أوقعته في المجتمع الفلسطيني، هو تشتيت خيارات الكتلة البشرية، فلم يعد بمقدور الوطنيين، جمع كتلتهم البشرية، وأخذها الى وجهة محددة، بل لم يعد بمقدورهم إقناعها في إجماع معقول، برموز نخبتهم السياسية، وطنية كانت أم إسلامية. وفي هذا الخضم، ينشأ تطرف أفراد يفيض غضبهم، في حالات متناثرة وربما متباعدة زمنياً، يستحيل تحويل تضحياتها، عند الدهس والاندفاع بسيارات بلا فرامل، أو العمل الاستشهادي، الى أوراق سياسية.
عندما توسلت الصهيونية "أرض الميعاد" كانت تتمرد على الدين اليهودي نفسه. وبعد نحو نصف القرن، من قيامها في فلسطين، بدأت إسرائيل في التمرد على العلمانية، وأحلّت اليهودية الأصولية منهجاً متحرراً من كل منطق تاريخي أو سياسي. أما الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بدأت ذات واجهة إسلامية وجهادية، فقد أخذها فحواها الى مقاربات سياسية أحبطتها الصهيونية. وانطلقت اسلاموية أصولية جديدة في الإقليم، بلا بوصلة، مكنت الولايات المتحدة، وإسرائيل تالياً، من التشارك مع العرب والفرس في الحرب عليها، لتصبح فلسطين بين شقيْ الرحى!