عندما رفع عبد الرحمن الكواكبي عقيرته بالصراخ ضد الاستبداد في الدولة العثمانية، في القرن ال19 ، مساويا بين الاستبداد بمعنى الإرهاب الفكري واحتكار السلطة والحقيقة معا، جوبه بتُهَم الخروج عن الصف لا سيما وأن الأولوية لدى الكثيرين حينها هو الدفاع عن الدولة العليّة (الاسلامية العثمانية) وعدم تجريح أي شيء فيها حتى طريقة إدارتها وقيادتها لا سيما والأعداء كُثر والفرنسيين قد احتلوا الجزائر.

   إن وضع مجموعة من الأولويات ذات الطابع الفكراني أمام صوت الكواكبي كانت المقدمة لهدر دمه ثم قتله، لكن مَن قتله سواء كانوا من أركان الدولة أو مطبّليها من الإنتهازيين قد تجاوزهم الزمن وبقي كتابه العظيم أيقونة لدى الأمم الحُرة وفي العرب والمسلمين وفكرهم المستنير ضد كافة أنواع الإستبداد سواء الفكري أو الديني أو الذاتي المصلحي أو السياسي.

    كان خالد الحسن المفكر العروبي الكبير من قيادة حركة فتح واحد ممن حباهم الله بهِبة الاتساع والرحابة الى الدرجة التي كان يتواصل فيها فكريا مع تيارات من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، وما قبل على نفسه أن ينصاع أبدا لإرادة أحد بمن فيهم ياسر عرفات إن لم يكن في الموقف أو القرار المتخذ خطاب يقبله عقله وقناعاته.

    ألف ابو السعيد قدس الله سره كتابه الهام عن الاستبداد (لكي لا تكون القيادة استبدادا، من حصاد تجربتي) مشيرا لأسباب الاستبداد وصفاته ومظاهره مما عاصره في الثورة الفلسطينية وحركة فتح،وهو وإن كان على قمة هرم السلطة والتنظيم فإنه لم يستنكف عن نقد الظاهرة وإن كانت الإشارات الخفية في كتابه معروفة الإتجاه.

 

عندما طرحت الموضوع على صفحتى على الشابكة سائلا العون تصدى أخوين كبيرين للموضوع فكتب الأخ فيصل خليل ليقول مُسهما في موضوع الاستبداد :( غياب عقد المؤتمرات الدورية التي تنتخب القيادات حسب القانون سبب الاستبداد، فنرى دائما هناك مماطلة وتأخر في عقد المؤتمر وان اضطرت الظروف لعقده فإن يعقد وفق أجندة القيادة الحالية التي تدعم وصول من يتوافق معها الرغبات والأهواء . لذلك في ظل غياب الديمقراطية الحقيقية في التنظيم ورغبة القيادة في التجديد والتطوير فإننا نرى بعد كل مؤتمر نسخا متشابهة من وجوه القيادة كأنها لم تتغير ولن تتغير هذا ما يعيب على التنظيمات عامة، فما أن يصل القائد حتى يبدأ في سياسة التحالفات والتيارات ليضمن استمراريته في المنصب تشاركه في ذلك بقية لقيادة المتفقة معه في الرأي والمبدأ ووجهة النظر السياسية  للتخلص من هذه الظاهرة والتي للأسف استفحلت لابد من تغيير آلية الانتخاب والاقتراع بحيث لا يعود لسياسة التحالفات أي دور تفعيل القوانين الخاصة بعقد المؤتمرات دوريا مهما كانت الظروف والأسباب النهج العام يجب ان يكون متفقا مع روح التنظيم وليس وفق سياسة ونهج القيادة)

أما في البحث بالأسباب فقال أ.د.أحمد محيسن مسببا للاستبداد بالقول أن مرد الظاهرة يرجع الى (فكفكة وتغييب الحياة التنظيمية في أي تنظيم وممارسة الضغوطات بكل الأساليب على من يخالفهم الرأي من المناضلين المخلصين، واكتفي بذلك لانه مثل ما قالت رحمة جدتي " الزاد إذا تفتّش ما بنذاق"..)

      نقف اليوم في الثورة الفلسطينية وفي إطار الفصائل وداخل المنظمة وخارجها لنلحظ الأعجب من ما مر به الكواكبي وأبو السعيد خالد الحسن من ممارسات استبدادية في سلوك عدد من القادة والكوادر، تأخذ مناحي خمسة نشير لها وهي:استبداد الفكرة، وحيث إختزال الدين (أو الايديولوجية) في الفكرة أو منهج التفكير، ثم في الشخص ما هو استبداد متجدد، يقول الكواكبي (الاستبداد يقلب الحقائق فى الأذهان، فيسوق الناس إلى إعتقاد أن طالب الحقِّ فاجرٌ، وتارك حقّه مطيع، والمشتكي المتظلِّم مفسد، والنّبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين، ويُصبح – كذلك – النُّصْح فضولاً-أي زائدا لا أهمية له، و الغيرة عداوة، والشّهامة عتوًّا، والحمية حماقة، والرحمة مرضاً، كما يعتبر أنَّ النِّفاق سياسة، والتحيُّل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.)

  ويقول في ذلك المفكر العربي الإسلامي مالك بن نبي أن الجهل في جوهره وثنية لأنه لا يغرس أفكارا وإنما يصنع أصناما.وعندما تغرب الفكرة يبرز الصنم

ثم نرى استبداد التفسير باحتكاره وحصره في النظرة الأحادية للشخص أو للتنظيم أو التيار (داخل التنظيم) التي لا تكترث بالآخر ولا تقبل التعددية كما لا تقبل رأيا أو تفسيرا أو تأويلا آخر.

 ونجد استبداد الإطار التنازلي (في الحزب أو الفصيل) من منطلق الاسقاط بمعنى أن المستبد (الديكتاتور) الأكبر-بغض النظر عن موقعه- يصنع أصناما صغيرة تمارس في حدودها وفي مزرعتها نفس طريقته في القيادة أو الإدارة أي القيادة الصنمية أو الوثنية، دون أدنى اعتبار لنظام أو قانون أوأخلاقيات إطار إلا بحدود ما يخدمه فقط، وأحيانا دون اعتبار لدين أوضمير فكلّه قابل للتطويع والتفصيل والتفسير والتبرير إرضاء للوثن الأكبر أو الطوطم في عقل أي شخص فينا ،ولم لا فالافتراء في هذه الحالة واجب من جهة،ويُحَث عليه من الجهة العليا شرط ألا تُمس مكانتها وهيمنتها ونطاق نفوذها.

 أما النوع الرابع من الاستبداد فهو استبداد الصناعة، عبر استخدام الآخرين من خلال صُنعهم عبر المغريات والامتيازات أو المال أو من خلال عصا التهديد والوعيد فيصبح الشخص عبدا لمن أغدق عليه، يعبد ما يعبده سيّده ويصلي له ويسجد، دون تبيّن للقِبلة .

   وفي النوعين السابقين تصبح النتيجة الواضحة هي: تفكك الحياة التنظيمية، وتصبح المشاحنات والتكتلات والعبث والاحتضان الفردي والولاءات الشخصية هي الحاكمة فقط، فتغيب المؤتمرات الحقيقية -لا الشكلية التي تحصل- وتصبح المماطلة فيها أو تعطيلها أو عقدها مرتبطة بالأهواء لا النظام.

        أما الاستبداد وبنوعه الخامس في التنظيم السياسي فهو الاستبداد التعسفي بمعنى استغلال الدستور أو القانون وتطويعه قسرا لخدمة غرض صعب التحقيق أو قد يأخذ جدلا ووقتا، أن لم يكن الأمر بالتطويع فيأتي بإتخاذ القرار الجماعي الأصل ضمن قِلّة مهيمنة،ويأتي تسريب القرار خِلسة وبسرية وفي ظلام الليل،وبغض النظر عن صحة القرار من عدمه فان (لصوصية) الطريقة تثير غبارا من الشك في صحة القرار مضمونا أو شكلا واستهجانا من ذوي اللّب، ومن جهة أخرى يتحقق للعقلية الاستبدادية في الإدارة(القيادة) نفاذ القرار لأنه يصبح أمرا واقعا يصعب مناقشته بعد انطلاقه.

إن عقل الاستبداد القيادي أو الاستبداد الاداري أوالاستبداد الديني أو السياسي أو المجتمعي ما زال حتى اليوم ينهل من نبع الهرمية المرتبطة بالعقلية العربية القبلية، كما يرتبط بسيف الإرهاب الفكري المستند لاحتكارية التفسير الأوحد للدين، ويرتبط ايضا بالمصلحة السياسية ذات المنحى الانتهازي أوالإخضاعي التي لا ترى بالآخرين إلا قطيعا من الخرفان مالهم إلا السمع والطاعة للقائد الجهبذ.

        الاستبداد هو مما نرفضه ولا نقبل أن يكون في أي إطار إسلامي أو عربي أو فلسطيني، وفي داخل التنظيم أو الشركة أوالبيت، ومما لا نحضّ عليه في أي أسلوب إداري .

      نرفض الاستبداد لأن خير البرية لم يمارسه ولا حضّ عليه فنحن خُلقنا أحرارا، وتأملوا معي الواقعة التالية: يحدث جابر بن عبد الله يقول: لما قسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال:  اعدل يا محمد!! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل.. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال:  معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه.

       هكذا قيم التسامح والاستيعاب والخُلُق العظيم للرسول الذي يرفض الاستبداد رغم مكانته السامية، ولا يمارسه بتاتا.

 إن الاستبداد الذي ما إن رفضناه في أي تنظيم سياسي فلسطيني فإن الأولى فينا أن نقاومه حيث نحن في حركة فتح الحركة الوطنية الرحبة في فضاء الحضارة العربية الاسلامية المتسامحة، نقاومه إن وجد أو متى ما ظهر في حركة فتح ثم غيرها، فان لم تكن هبة الله لنا هي المفتاح وهي الحَكَم وتشغيلها واستعمالها هو الهدف فنحن قطعا نرفض مِنّة التكريم الرباني بالعقل ونخون الأمانة التي استخلفنا الله بها الأرض لعبادته هو وحده دون شريك من إنس أو جان.