ثمة احتمالان يتعلقان بالاتفاق الجديد الذي تم بين حركتي فتح وحماس في القاهرة نهاية الأسبوع الماضي: فهو إما أن يضاف إلى قائمة الاتفاقيات الكثيرة التي وقعت بين الكل الفلسطيني، وهي اتفاقيات بعضها مهد للانقسام وبعضها عززه وبعضها الآخر أداره، وإما أن يكون صفحة جديدة مختلفة عن صفحات الكتاب الأخرى، وبالتالي يشكل اختراقاً غير مسبوق في العلاقات الوطنية الداخلية.
وإذا كان للمرء أن يتبع حدسه، فإن الإحساس العام لدى عامة الناس هو أنه سيكون مجرد اتفاق آخر سرعان ما تتدهور العجلة وتسقط العربة على أول منحدر.
إن كمية الخلافات التي ظهرت للسطح فور انتهاء العدوان والتراشق الإعلامي المتسارع بين الطرفين والنقاط المثارة للنقاش بما يحمله بعضها من الحاجة لقرارات جريئة والبعض الآخر لحوار فكري استراتيجي كلها اقترحت أن جولة الحوار بين الطرفين قد تمتد أياماً طويلة وتحتاج للجان فرعية تفصيلية تصوغ المواقف والتوجيهات والإرشادات المشتركة بينهما، لكن ما حدث أنه بقوة السوبرمان تم حل كل شيء وتم إعلان اتفاق سريع يشبه وجبات المطاعم الأميركية وربما بذات نكهتها سريعة الاختفاء. بالطبع الكل منا مع سرعة الاتفاق وإزالة عقبات الاختلاف لأن في مثل هذا الفعل دفعاً للعملية الداخلية للأمام، ولكن أنا من الذين يقولون إن حواراً جاداً يستمر لأسابيع وربما لأشهر على قاعدة عدم الخروج من الغرف حتى التوصل لاتفاق، أفضل من اتفاقيات الوجبات السريعة التي تبدو في سطحها شهية لكن مكوناتها متعفنة ولا تصلح لشيء.
كان يمكن للمزيد من الحوار وعصف الذهن والخلاف داخل الغرف أن يأتي بحلول أكثر عمقاً.
أنا من الذين يشعرون بعدم الراحة من وراء تلك الابتسامات العريضة والمصافحات الحارة والعبارات الكبيرة التي تصلح فقط للتغطيات الصحافية ويمكن لصحافي محترف أو لمدراء مكاتب الصحافة لدى السياسيين أن يقوموا بها بدلاً عنهم.
لأن الاتفاقات المفصلة والواضحة والدقيقة والتي توضح كل شيء وحدها مثل النظرية العلمية تحل المشاكل، أما الاتفاقات العامة والخطوط العريضة فهذه مجرد احتفالات وكرنفالات صحافية لا يمكن ترجمتها إلى إجراءات حقيقية.
هل سيصمد الاتفاق الجديد؟
الإجابة عن السؤال السابق يمكن لها أن تأخذ بعين الاعتبارات عاملين متداخلين يمكن صوغهما على شكل سؤالين. الاول بماذا يختلف هذا الاتفاق عن الاتفاق السابق؟ ربما الكثيرون سيقولون لا يختلف كثيراً. فقط ربما بعض الاضافات الجزئية على الاتفاق السابق وتفسير لبعض العبارات الكبيرة التي وردت فيه، ولكن أيضاً هذا التوضيح جاء أكثر غموضاً.
أما السؤال الثاني فيتعلق بالسياق المحيط بتوقيع الاتفاق، من المؤكد ان السياق العام اختلف قليلاً حيث دخل عامل الحرب ونتائجها على الأرض وقضية إعادة الإعمار كعنصر ضغط من اجل التسريع في إنهاء الخلاف. لكن السؤال الأساس في ذلك يتعلق في فهم الطرفين لمثل هذا السياق. بالطبع فحماس وفتح تختلفان في فهم ما جرى، صحيح أن الدمار في قطاع غزة مهول وهو يمس تفاصيل حياة الناس، وغزة التي غرقت العام الماضي دون دمار ما الذي سيحدث لها مع وجود كميات الردم والخراب في كل شارع وزقاق تقريباً، لكن حماس لا ترى الأمور بهذه العين.
عموماً ما لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق موحد حول حقيقة ما جري، يكون هو القاعدة التي تتأسس عليها الخطوات اللاحقة، وإذا ما ظل من يقرر مصيرنا من لا يعيش بين الناس ولا يشعر بمأساتهم حتى لو كان يسكن بين ظهرانيهم فإننا سنظل نسير في خطين متوازيين لا يلتقيان.
ستظل قضية إعادة الأعمار هي الأهم بالنسبة للناس المهدمة بيوتهم، فهم ليسوا بحاجة لتبريرات ولا مسوغات ولا عبارات كبيرة، هم فقط يريدون من يقول لهم كيف سيتم بناء بيوتهم وبأسرع وقت ممكن.
الأمر ذاته ينسحب على قضية موظفي الحكومة في الطرفين، فموظفو حكومة حماس خلال الانقلاب لا يعرفون أي شيء لا يقود إلى تسوية أوضاعهم ولو ضمن ترتيبات خاصة تضمن لهم العيش السليم.
وفي ظل هذه الزحمة يضيع الحديث عن حقوق موظفي غزة الشرعيين الذين دافعوا عن شرعية حكومتي فياض والحمد الله خلال السنوات الثماني الماضية وتعرضوا للاعتقال والسجن والمنع من السفر وغيره من الإجراءات في غزة، ولم ينالوا أياً من حقوقهم المكفولة في القانون، بل تم إجحافهم.
أيضاً قضية الأمن والعلاقة بين مجموعات المقاومة وبين سلاح السلطة والترتيبات حول ذلك، وقضية دمج الأجهزة الأمنية، والقائمة تطول.
فكيف يمكن لنا أن نفهم أنه تم التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات ما لم يشعر المواطن بحلول على الأرض.
بالطبع هناك ترتيبات للجان إدارية تقوم بفحص ذلك، ولكن من السابق القول إننا توصلنا لاتفاق قبل أن تقوم هذه اللجان بتسوية كل شيء.
ليس لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكن لأن حقاً الشر يغلب الخير كثيراً للأسف.
وكما اقترح صديق لي لا بد لنا كفلسطينيين وقتها أن نتنافس على دخول موسوعة "جينيس" في أكثر عدد اتفاقيات مصالحة موقعة بيننا.
وبالتالي نحقق إنجازاً من وراء هذا الفشل الذي لابد أن يدرّس في محاضرات التاريخ والنظم السياسية.
فكما تدرس الحروب الأهلية بوصفها مرحلة من مراحل نشوء الدول وتحديداً الحرب الأهلية الأميركية وما أفضت إليها من تكوين دستور فيلادلفيا الشهير الذي صار الدستور الأميركي، والحروب الأهلية الإسبانية وحروب المدن الإيطالية والحرب الأهلية البريطانية القصيرة وكل تلك، فإنه يمكن لنا كفلسطينيين أن نضيف إفادة جديدة إلى كل هذا التاريخ في أننا الشعب الواقع تحت الاحتلال وتقع بيننا حرب أهلية، إلا أن إضافتنا الأكثر عمقاً هي في فشلنا المتكرر في صوغ اتفاقيات تصلح لإنهاء الاحتراب الداخلي.
لعل كل ذلك تشاؤم مفرط، لكنه من واقع الحال.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها