لكل حدث مروّع، تمر به الشعوب والأمم، تداعيات سوسيولوجية. ومن لا يكترث بهذه الداعيات، فلا مناص من اختناقه آجلاً أم عاجلاً، لأن القوى السياسية التي تعاند التبدلات الاجتماعية، وتتجاهل النفسية العامة للناس، تفقد القدرة على أداء وظيفتها السياسية، من حيث كونها انعكاساً لجزء من تمنيات الناس وطموحاتها وآلامها.
الكارثة التي وقعت لغزة، تستوجب الآن عملاً نوعياً يستم بالإيثار وبالعمل الدؤوب على تضميد الجراح ومواساة المنكوبين والأخذ بيدهم لاستئناف حياتهم الطبيعية. ولما كانت السلطة الوطنية الفلسطينية، عاجزة عن تغطية أكلاف هذه المهمة الجسيمة؛ يتعين على الجميع أن يلتزم خطة عمل مُحكمة، تشارك فيها كل الأطياف، وتستقطب راغبين ومستعدين للعون. فقد اثبتت التجارب أن طرفاً لوحده لا يستطيع الاضطلاع بمهام وطنية شاملة، وأن الخصومة ومهاتراتها لا تفيد الضالعين فيها، بل من شأنها إلحاق الأذى بالشعب الفلسطيني وتضييع البوصلة.
العارفون بعلم الاجتماع، تعلموا أن هذا السياق من العلوم الإنسانية لم يولد إلا من رحم العذاب الاجتماعي والأذى الذي أصاب الناس. ولا معنى للسياسة بل لا معنى للثورة إن لم تقرأ جيداً الحال الاجتماعي. لقد تعرف الناس متأخرين على علم الاجتماع. وكان الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، تحديداً، هو الذي دعا الناس الى التأمل بعد كل مصيبة، والى أخذ الملاحظات، من المرارات والجراحات ووقائع الموت، التي تعرض لها الفرنسيون في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وربما يكون حجر الأساس في فلسفته، هو ما سمّاه وحدة الناس لأنها هي النمط الطبيعي للوجود الإنساني. ولن تتأتى هذه الوحدة، دون أن تصبح الأولوية للكل على الجزء، وتقديم الاجتماعي على الفردي والخاص.
اليوم نحن مطالبون بجعل الأولوية للمجتمع، وهنا تصبح وحدة القوى الحية ضرورة أو شرطاً موضوعياً. لقد أُنهكت الناس في غزة، وبات الخناق يضيق على شعبنا في الضفة، أما فلسطينيو الشتات فما زالوا بين غربة واغتراب ومحاولات للنجاة. بعض هؤلاء الأخيرين ركبوا البحر، فمنهم من وصل ومنهم من قضى على الطريق. إن لم تُبن الخطط والمناهج على هذا الأساس، فإن السياسة نفسها، بكل تعبيراتها السلمية والجهادية، تصبح عبثاً وحديثاً خارج الواقع، وسبوبة للمتكلمين بها. إن إحدى مشكلاتنا هي افتقار بعض الطبقة السياسية والجهادية الى القدرة على التأمل واستنتاج الملاحظات التي تعين على رسم خارطة طريق صحيحة، تراعي الحفاظ على ثوابت القضية ومدركاتها، وتحافظ في الوقت نفسه على شعب القضية.
يخطيء من يتحاشى الاعتراف بأننا في مرحلة انهيار على المستوى القومي، ويُخطيء تالياً من يظن أن هذا الانهيار لا ينسحب على الوضع الفلسطيني أولاً وثانياً وعاشراً. نعلم أننا بصدد عدو لا بد من مقاومته، لكن شكل المقاومة الذي نختاره الآن، بات هو الذي في موضع السؤال الأول.
إن أردنا الخروج من دائرة الكلام العام، والدخول في الكلام الخاص، نقول لا مناص من وحدة وطنية على أسس دستورية وقانونية. حكومات التوافق الشكلاني لا تعكس الوحدة المرتجاة. والتعارض بين الخيارات والاستراتيجيات، ومعاندة الواقع ومجافاة الدعوة الى نقاش موضوعي ينتهي بالتوافق على استراتيجية عمل واحدة، يجعل السجال العقيم قائماً، يملأ فراغ مربعات الانجاز بامتلاء من الكلام الهلامي والعاطفي والسقيم.
من الضروري الرجوع الى المجتمع لنعلم حجم الفراغ واليأس الذي أوقعناه في حياته. أما التنازع فإنه لا يفعل شيئاً سوى تكريس العُري القائم.
ما زالت حياتنا الدستورية معطلة، وتؤخذ بقايا أوضاع الخصومة، ذريعة أو سبباً وجيهاً لاستمرار العطالة. لم نعترض على وصف ما حدث مؤخراً، جراء الحرب التي شنها المحتلون على غزة، بأنه انتصار، إلا لكون هذا التعريف لما حدث، سيكون سبباً وذريعة في تكريس وجود نهجين متعارضين، وسجال قائم، بينما شعبنا يكابد تداعيات ما وقع.
تداعيات اجتماعية/ بقلم عدلي صادق
01-09-2014
مشاهدة: 616
عدلي صادق
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها