في حكاية الدم الذي يستعصي على القصف، والنازفون الذين يعاندون كل القنابل؛ أعدت غزة للمتحف الفلسطيني، شواهد من وقائع الكارثة والبطولة الحقيقيتين، تبزُّ بهما متحف البكّائين الشكّائين، وتبرق الى العالمين: ضحايا النازية وضحايانا، أطفالاً ونساءً وفتية يافعين، برهنوا بدمائهم على أن قتلة الأبرياء، من كل لون وجنس ودين، ينتمون في كل زمن، الى فصيلة واحدة، وكانوا يرضعون من ثدي أم واحدة، مهووسة، وانتهى مآلهم الى السقوط، غير مأسوف على سحناتهم ولا على شبقهم المرذول الملوِث للبيئة الانسانية!
هؤلاء، بعدما شاهدوا بأم العين، كيف يضم الفلسطينيون على جراحهم، ويحتسبون شهداءهم عصافير جنان ومظلومين يتقبلهم الله فيمن عنده؛ يحاولون الآن، عبثاً، استذكار شيء من المعاني التي استقرت عليها الحظيرة الآدمية. ليس ذلك لنزعة متأخرة الى التوبة، لأن المتورطين مع الآثام ومع الجريمة لا يتوبون؛ وانما هؤلاء يسعون الى تكريس ما منحتهم اياه الولايات المتحدة وهو "حق" النجاة من العقاب!
المعتوهون المتطرفون المجرمون، باتوا يتحدثون عن مقاربة لترضية غزة، وظنوا لغبائهم أن الضائع من غزة ولغزة، ينحصر في أسباب الراحة في الحياة وحسب. نطقت جمهرتهم البذيئة بلسان نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان، وعرضت بعض التحسينات على الحياة في مساحة الحَشْر: ادارة دولية تتفق عليها اسرائيل والسلطة الوطنية، على أن يُنزع سلاح الناس في المحشر، وأن يتولى الدوليون الكرام، تشغيل مطار ومرفأ ومعابر. ربما يريدون للسلطة الوطنية أن تتوخى تدبيراً مشابهاً للضفة، ثم تذهب للاضطلاع بمشروع وطني آخر في احدى شطايا مقرونيزيا التي قسمتها واشنطن الى اربع دول ميكروسكوبية، تحظى بأربعة أصوات ضامنة لرفع عدد الأيدي المؤيدة لاسرائيل من واحد (هو الصوت الاميركي) الى خمسة، مع اضافة أي صوت لطرف يتحسس جلده وتعز عليه عنصريته!
فلا السلطة الوطنية تتخلى عن مشروعها الوطني في الأراضي المحتلة، ولا مشكلة غزة تنحصر في آلام المحشر، ولا هؤلاء المتغطرسين يتخلون عن أحلامهم المريضة، ولن تتخلى غزة عن حقها في خيار الموت مع المقاومة، ان كان الخيار الآخر هو الموت بلا مقاومة!
هؤلاء القتلة الذين اغتالوا طفولة أطفالنا، يقابلون الآن بعض المتطلبات الفلسطينية المتواضعة، كاعادة الاعمار، بالاشتراط أن تكون تلك الاعادة للاعمار تحت رقابة منظومة دولية ضامنة لحُسن التصرف بمواد البناء، خشية أن يُعاد تسقيف أنفاق. وكأن الأنفاق بُنيت أثناء انفتاح بوابات المحشر على مصاريعها لتدفق مواد البناء. في هذا السياق، يريدون للأمم أن تحضر. أما ان أرادت الأمم الحضور لوقف جرائمهم، فانهم يرفضونها كفأل شؤم ونذير ادانة. هكذا هم، يريدون الأمم وقتما يشاؤون، ويرفضونها وقتما يشاؤون. تاريخياً، استماتت الحركة الصهيونية في الأربعينيات لكي ترفع النزاع بين أغلبية في وطنها وأقلية متطفلة هاجرت الى فلسطين؛ من مستوى نزاع محلي لمجموعة طارئة، الى مستوى النزاع الدولي الذي تبت فيه الأمم المتحدة. ولم يتسن للصهيونية ذلك الا بعد الحرب العالمية الثانية ورضوخ بريطانيا الكامل للولايات المتحدة، وبعد مشروع "مارشال" لاعادة اعمار أوروبا. وكانت بريطانيا قبل الحرب، قد توصلت الى قناعة بتسوية محلية وفق مشروع "ماكدونالد" الذي سُمي "الكتاب الأبيض". في تلك الظروف الدولية الاستثنائية، حصلت الأقلية المسلحة على ما أرادت، وبمساعدة المستوطن القديم رُفع الأمر الى الأمم المتحدة هي غير ذات اختصاص آنذاك، وصدر مشروع التقسيم، ولما حصلوا على الاعتراف الأممي بدولتهم "حلقوا" لكل قرارات الأمم المتحدة الى يومنا هذا. يستدعون المنظمة الدولية عندما يريدون، ويستبعدونها عندما يريدون. الآن يريدون الأمم لتسيير أحوال قطاع غزة. يستدعونها لاجهاض مشروعنا الوطني. وبدا واضحا أن استمرار هؤلاء في العربدة و"اللعبطة" والاجرام، هو الذي سيؤدي الى انهيار النظام الدولي أو على الأقل الاقليمي لنرى بعدئذ، كيف تتصرف الأمم والأكثريون، مع الأقلويين الذين تمادوا في التسلط وفي العدوان. عندئذٍ تُستعاد ذكرى الضحايا الأبرياء، وتتبدى بركات فلسطين، ولا يزيد ود الشعوب في هذه المنطقة لواشنطن، عن وداد اميركا اللاتينية لها، وهي كارهتها عن وعي تاريخي!