لم يخطئ خالد مشعل عندما تحدث عن موضوع المفاوضات مع وكالة (فرانس برس) موضحا ان كل صراع ينتهي بمفاوضات، وما كان هذا جديدا عليه، وحينما خرّج التفاوض من ناحية شرعية بمعنى أجازه وأباحه ،[1] ولم يكن ذلك شيئا جديدا أيضا على تيار الفكر المتحرر في "حماس" الذي يقوده خالد مشعل وثلة في التنظيم ، فهو الرجل الذي عاهد الرئيس أبومازن على أن يمضي قدما في المفاوضات والقيادة الفلسطينية في ظل الاتفاقيات المتتالية التي حاولت علاج  انقلاب حماس في غزة عام 2007.

خالد مشعل رجل عملاني (براغماتي) بالتأكيد هو قائد فلسطيني وطني وان اختلفنا معه ففي أمور سياسية نتحرى فيها الأصلح والأصوب ، وهو في اطار وطنيته يسعى قطعا لتحسين صورة تنظيمه، ولإعادة وهجه على الساحة، كما يسعى لتمتين و"ترميم" علاقاته الاقليمية، وفي كل ذلك مقدرة على الرؤية أو التقدير أو التحديد نتفق أو نختلف عليها، ما هو متاح ومباح ومطلوب.

ان المشروع الفكراني الذي استقر في ذهن التنظيمات الإسلاموية ومنها الاخوان المسلمين وفيها "حماس" هو مشروع (الدولة أو الخلافة الاسلامية)، وهي الاطار الوحدوي الجامع لأمة المسلمين، وان كانت فكرة الجامعة العربية أو الجامعة الاسلامية أو جامعة العمال (الاشتراكية) هي أفكار بدايات القرن العشرين، فإن تطور الفكر والمآلات قد جعلت من هذه الأفكار الجميلة اما تسقط بالتطبيق (كما حصل مع الدول القومية العربية "الحزبية"، ومع نموذج حكم الاسلامويين في عدة دول، ونموذج الشيوعيات المنهارة )، وأما تسقط بالتعصب والجهالة والتمترس نحو ذات الفكرة بتقديسها على غيرها دون النظر بالواقع والتطورات أوالنظر بمصلحة العباد والبلاد (الوطنية) التي هي مقدمة بالضرورة على غيرها.

ن الاستظلال بالفكر ضرورة لجعل المرجعية متينة، وضرورة لجعل الفرد صلبا لا يميل مع الريح الفاسدة، ولكن الفكر شأن انساني بحت، وليس كائنا صمدا يُعبد، وليس طوطما أو أيقونة تُقدم على مذبحها القرابين البشرية، كما أن الفكرانية (الايديولوجية) أن تحولت لصندوق مقفل فإنها تقفِل معها العقل فتطيح بالوعي وينتشر الوهم والخرافات، أضف الى ذلك أننا نعتبر الفكر في حقيقته كائن حي، ان لم يتجدد في كل دورة يشيخ، ويظهر غيره فينزع عنه الصدارة في القلوب والعقول.

 لقد قدمت التنظيمات الاسلاموية فكرة (الوحدة) كما التنظيمات القومية على فكرة (التحرير) فقامت حركة فتح بقلب المعادلة وانطلقت بالأمة . ولما خرج من بين الاخوان المسلمين من ينقض الفكرة السابقة بالأولوية للوحدة على التحرير، ويتبع سبيل الجهاد بإنشاء "حماس"، و"الجهاد الاسلامي" قبلها ، فإنه عمليا قد تم إعادة موضعة الفكرة لتتفق والمسار الواقعي لأحداث ما يحسب اليوم ايجابا لتيارمهم سواء في الاخوان المسلمين أو في حركة الجهاد وحماس.

 لم يخطئ خالد مشعل عندما قال بالتفاوض،[2] واخطأ كل الخطأ عندما برر انقلاب غزة عام 2007 ، ولم يخطئ عندما وثق بأبي مازن ليتفاوض كرئيس للمنظمة والسلطة والدولة وأخطأ كل الخطأ ان كان قد فتح قناة فصائلية مع الاسرائيليين !

إن موافقة حماس الواقعية (البراغماتية) على تبني نهج التفاوض مع المقاومة، هو نهج وطني وإن كان مرفوضا في تيارات انعزالية في "حماس" وغيرها، ترى بذاتها الطُهر كلّه كما ترى ضرورة الولاء والبراء، والتميز على غيرها فيما تراه استعلاء.

كما ان الاقرار بالفكرة العامة، لا يعني أن تطبيقها متاح لأي كان، فأن نقول بضرورة شرب الماء للجميع مثلا (حق الماء) لا يعني أن يقوم الجميع باستنزاف الثروة المائية بحفر آبار ارتوازية في كل مكان، وأن نقول أن الحوار حق لا يعني أن نقاطع غيرنا ونشتمه ونعهر به معتبرين ذلك حوارا، وأن نقوم بتقويم المنكر باليد (واجب) لا يعني أن نقوم بدور الشرطة أبدا.

 وعليه يجب أن لا يعني الوعي بضرورة "التفاوض" ان تكون الطريق مفتوحة لمن هب ودب فلكل فكرة أرجل، أو مركبات يتم الاتفاق على السير بها، وهي الهياكل والأطر والأساليب التي تحركها الأهداف، ويكلف أشخاص محددين بقيادتها، خاصة حين التفاوض مع العدو.

 أخطأ خالد مشعل ان كان قد فتح قناة اتصال فصائلية منفصلة مع الاسرائيليين ، دون تنسيق رسمي مع القيادة التي هو جزء منها مرتين، بالأولى أن ذلك يجئ في فترة (وحدة ومصالحة) فلسطينية قيادية هو منها، وثانيا أنه هو من سوّغ للرئيس أبو مازن الاستمرار بالمفاوضات بصفته رئيسا وممثلا.

 ولو ضربنا صفحا عن موقف خالد مشعل السياسي الواقعي المتميز، فإن غالب ناطقي "حماس" قد قالوا في الرئيس وصائب عريقات والمفاوض الفلسطيني ما لم يقله مالك في الخمر ذما وقدحا وشتما وتكفيرا وتخوينا حتى اليوم، لمجرد أنهم تفاوضوا، ولأي كان الرجوع لسيل التصريحات الفكرانية (المؤدلجة) ضد كل من شارك بالتفاوض، ما يُفهم اليوم جليا من هذه الأصوات أن المشكلة عندها لم تكن "بذات" المفاوضات، فهي حلال شرعا، ولا بفكرة التفاوض فهي سياسية مقبولة، ولا بمضمون المفاوضات، فما هو مطروح اليوم حسب ما ورد في صحيفة الرسالة التابعة لحماس هدنة من 10-5 سنوات (لقطاع غزة فقط) دونا عن الضفة! ما هو كارثة قومية.

 إذن المشكلة الحقيقية في هذه الأصوات الفكرانية المتعصبة هي في أنهم إن فاوضوا هم فذلك مشروع دينيا وسياسيا ووطنيا، وعندما يفاوض غيرهم فذلك مرفوض لنفس المنطلقات.

 إن خطورة خط التفاوض الفصائلي المنفصل تكمن في عدة أمور واضحة المعالم فهي تشتت الجهد المشترك الذي تجلى في الوفد الموحد في القاهرة كما تطعن بمضمون الوحدة الوطنية التي تحققت بعد سيل دماء من 4 حروب منذ العام 2007.

 وثانيا فالمفاوضات بين فصيل والعدو يتيح للإسرائيليين الاستفراد بهذا الفصيل دون آخر ، فيُعلى المفاوض من مصلحة الفصيل وتميزه على حساب غيره في لعبة الاختراق والتفتيت المقصود فيها تحطيم الوحدة الوطنية وفصل الضفة عن غزة جغرافيا واجتماعيا وسياسيا.

 ما ثالثا فإن الثقة بالنفس أو حسن النوايا أو القدرة لهذا الفصيل على غيره في تبرير التفاوض المنفصل- وكأن الأمر مبارزة فصائلية لا اطار وطني- هي فكرة ضارة بل وبدعة غير مبررة تسقط الفصيل في حبائل العقل الاسرائيلي الجمعي.

 ان قدرة الفكر الواقعي في حماس على أن يتأقلم ويتعلم ويتفهم، ولو متأخرا لا شك فيها وهي تحسب لهذا التيار ايجابيا وعلى رأسها خالد مشعل ، ولكن استبداد عقلية الفسطاطين (أوالمنهجين) اللذين لا يلتقيان، داخل الحركات الاسلاموية ستقضي حتما على أي فضاء يتسع ليجمع المختلفين سياسيا، فتصبح الفكرة مقدسة ومستبدة، وتسقط القداسة على التنظيم والأشخاص، أكانوا مؤهلين أو غير مؤهلين، مقاومين أو مفاوضين، حتى لو كانوا يخوضون في الوحل والنجاسة.