بعد الصمود الملحمي لقطاع غزة أمام الفاشية الإسرائيلية المتغولة، وفي سياق الترتيبات المصرية المحايدة للتوصل إلى اتفاق لوقف النار بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين، بدت المطالب الفلسطينية كأنها بسيطة ومتواضعة، وذات طابع إنساني بالدرجة الأولى. فوقف النار أمر بدهي بعد أي معركة، أما فتح المعابر من الجانبين المصري والإسرائيلي، وحرية مرور الأفراد والبضائع والمعدات، فهي جميعها تفصيل في بند مفرد، هو رفع الحصار عن غزة. وعلى الغرار نفسه، يسري الحديث عن إطلاق الأسرى الذين تحرّروا في صفقة جلعاد شاليط، وأعادت إسرائيل اعتقالهم قبيل العدوان الأخير، وكذلك منح الصيادين الفلسطينيين الحق في الصيد حتى 12 ميلًا بحريًا.

ليست هذه المطالب سياسيةً في الجوهر، وليست شروطًا في مفاوضات الحل النهائي التي نسيها الجميع، إنما هي بنود إجرائية لجعل الحياة اليومية في قطاع غزة ممكنة. وهذه مفارقة عجيبة؛ فالسلطة الفلسطينية استهلكت عشر سنوات بعد ياسر عرفات، وهي تفاوض إسرائيل من دون استعمال السلاح، ولم تجنِ أي نتائج بالطبع. وفي غزة، يجري التفاوض بالسلاح، لكن، لا على مطالب سياسية، بل على مطالب إنسانية. وبهذا المعنى، تكاد فكرة التحرر الوطني، أي الجمع بين السلاح والتفاوض، تختفي وتفقد مكانتها في السياسات الفلسطينية الواقعية، وفي الثقافة السياسية للجماعات الفلسطينية المختلفة؛ فهذه الفكرة التي قامت، في الأساس، على مبدأ "قاتل وفاوض" Fight fight, talk talk، تكاد تخبو اليوم بالتدريج، وإن أومضت أحيانًا، فهي تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
لماذا كانت الحال على هذا المنوال؟ وما السبب في أن الأهداف الكبرى للشعب الفلسطيني تتضاءل، حين يشتد النضال الفلسطيني ويتجذّر؟ ولماذا تدحرجت هذه الأهداف نزولًا من برنامج التحرير في سنة 1965، إلى البرنامج المرحلي في 1974، ثم إلى برنامج الاستقلال في 1988، فإلى برنامج أوسلو في 1993، ثم إلى "خريطة الطريق" وترتيباتها في 2002، حتى وصلنا إلى معادلات ظرفية، مثل "التهدئة" و"التهدئة في مقابل التهدئة"؟ لنتذكر أن الخط البياني للمقاومة الفلسطينية كان يتجه، في هذه الحقبة نفسها، إلى الصعود، ولو بتعرج، من مرحلة بناء القواعد السرية قبل انطلاقة الكفاح المسلح في 1965، إلى بناء قواعد الإسناد الثابتة بعد 1967، ثم إلى النهوض الكبير بعد معركة الكرامة في 1968، فإلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، عربيًا وعالميًا في 1974 (مؤتمر الرباط وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة)، الأمر الذي أتاح للمنظمة أن تصبح لاعبًا رئيسًا في سياسات المنطقة العربية. وحتى مع هزيمة 1982 في لبنان، فإن الفلسطينيين سجلوا انتفاضتين عظيمتين في سنتي 1987 و2000، جعلتا العالم كله يُنصت لاسم فلسطين، ولعدالة قضيتها وحق شعبها في الحرية والعودة.

إنها معادلة رياضية بسيطة ومعقدة في آن؛ فالأهداف الفلسطينية كانت دائمًا تتنافر مع عناصر القوة، أي كلما ازدادت عناصر القوة تراجعت الأهداف. ومن البدهي ألا تكون الأمور على هذا النحو، لكن البدهيات لا تنفع في مضمار السياسة؛ فالأهداف الممكنة، مهما بلغت قوتها الرمزية والتاريخية والعقيدية، تعكس، في النهاية، موازين القوة، لا بين الفلسطينيين وإسرائيل وحدهما، بل بين العرب وإسرائيل أيضًا. والأهداف التاريخية للشعب الفلسطيني أُرغمت، وتُرغم اليوم مجددًا، على الاستجابة لموازين القوة، كما استقر نصابها أخيراً.
إن تدحرج الأهداف الفلسطينية نزولًا إنما يجد تفسيره، لا في الخضوع السلبي للواقع، بل في تهتك الوضع الاستراتيجي للعالم العربي الذي بدأ بخروج أنور السادات من الصراع العربي – الإسرائيلي في 1977، ثم بانحطاط الأحوال العربية كلها جراء احتباس أفكار النهوض والتقدم والإصلاح والحريات، وجراء الاستبداد وفشل المجتمعات العربية في تأسيس دولة المواطنة والمواطنين الأحرار، ثم خرابها بأيدي النظم العسكرية الناهبة والطاغية، وها هي بقايا هذه الدول تتخلع أبوابها، وتتطاير أسيجتها في جميع الاتجاهات، على أيدي الجماعات المتوحشة والمروِّعة. وفي معمعان هذا الهذيان الديني والإثني والطائفي المحتدم في المشرق العربي كله، بات الشعب الفلسطيني في العراء، وصارت قضيته متروكة ومرذولة، وما عاد كثيرون يخجلون من الوقوع علنًا في غرام إسرائيل، تمامًا مثل بعض غربان الصحافة اللبنانية والمصرية الذين ارتفعت عقائرهم إبان العدوان على غزة، لتشكر إسرائيل وتذم الفلسطينيين الذين أجبرتهم أحوالهم وأهوالهم على أن يقلبوا شعار "كونوا واقعيين، اطلبوا المستحيل" (أطلقه كوهين بنديت إبان ثورة مايو/أيار 1968 في باريس) ليصبح: "لننصت إلى الواقع الآن لا إلى المستحيل". ومع أن الإنصات إلى الواقع مجازفة مهينة ومميتة أحيانًا، إلا أن الواقع العربي اليوم هو الموت في حدّ ذاته. وحدهم الفلسطينيون يتصدون للمستحيل.