العدوان الأخير الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة واستمر لشهر كامل، كان الأكثر شراسة والأشد ضراوة ووحشية، ارتكبت خلاله إسرائيل جرائم حرب ضد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
والمحصلة كانت رهيبة من حيث عدد الوحدات السكنية المدمرة كلياً أو جزئياً حتى لم تعد صالحة للسكن، ومن حيث الدمار الذي أصاب البنى التحتية في قطاع غزة، والأهم من حيث عدد الشهداء والجرحى، ونحو 40% منهم من الأطفال والنساء والمسنين، وأيضاً من حيث عدد القتلى والجرحى في الجانب الإسرائيلي.
الإسرائيليون والفلسطينيون وكل من تابعوا مجريات التصدي الفلسطيني لآلة العدوان الإسرائيلي، فوجئوا بقدرات المقاومة وأدائها المدهش وتكتيكاتها المتنوعة، ما جعل العديد من المراقبين في إسرائيل يعترفون بأن ما قام به الجيش، ليس نزهةً أو تدريباً.
ولكن لماذا بادرت إسرائيل لشن هذا العدوان الذي استنزف منها الكثير، خصوصاً وأن الخسائر الأولية تقدر بما يقرب من خمسة مليارات دولار، ونحو سبعين قتيلاً ونحو ألف جريح، وخلالها توقفت حركة الطيران في مطار بن غوريون للمرة الأولى في تاريخ الصراع؟
التطورات التي سبقت العدوان ومهدت له، كانت تشير على نحو مؤكد إلى أن الفلسطينيين سيذهبون في اتجاه تحقيق المصالحة الداخلية، وكان ذلك سبباً كافياً لإيقاظ الوحش الإسرائيلي.
وقبل شهرين توافرت لإسرائيل الذريعة، حين اختفى ثلاثة مستوطنين في منطقة الخليل، فبادر بنيامين نتنياهو لإعلان أن إسرائيل في حالة حرب، ولم تتوافر لها مقومات الحرب حسب ظروف الضفة الغربية، ما يعني أن بوصلة العمل تتجه نحو قطاع غزة.
وكان من المتوقع أن يكون الاجتياح الذي قامت به القوات الإسرائيلية للضفة بحجة البحث عن المستوطنين الثلاثة، هو المقدمة أو المرحلة الأولى من العدوان المتصاعد الذي سينتقل إلى قطاع غزة، وكان الهدف الأول المعلن من قبل نتنياهو هو تدمير المصالحة الفلسطينية وحل حكومة الوفاق الوطني.
غير أن عدواناً وحشياً كالذي شنته إسرائيل، لا يعطيه أو يبرره هدف من نوع تدمير المصالحة الفلسطينية، إذ ما كان له (العدوان) أن يحظى بموافقة حتى حلفائها الدوليين. ولذلك رفعت هدفاً جديداً، وهو تدمير شبكة الأنفاق العابرة للحدود بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 1948.
ومبادرة إسرائيل لشن هذا العدوان الواسع، شكلت ظرفاً مناسباً لأكثر من طرف دولي وإقليمي ومحلي، وكل طرف سعى لتحقيق أهداف خاصة به.
حركة حماس كانت تعاني من أزمة دفعتها لتحقيق المصالحة، لكن المصالحة تعطلت، حيث توقفت عند تشكيل حكومة الوفاق، وبالتالي كان على الحركة أن تحرك المياه الراكدة، وأن تقدم نفسها على أنها طرف قوي، لم يأت إلى خيار المصالحة طائعاً أو مستسلماً، وأن أحداً لا يستطيع تجاوز الحركة التي ستؤكد من خلال مجابهة العدوان أنها حركة وطنية، لا تجوز معاملتها على أساس انتمائها الأيديولوجي والتنظيمي.
والموقف المصري معروف ومعلن تجاه حركة حماس التي ينظر إليها المصريون على أنها الجناح العسكري المتقدم لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، والتي جرى تصنيفها على أنها جماعة إرهابية.
وهذا الموقف المصري عكس نفسه بقوة على الموقف العربي، حيث اكتفى العرب الرسميون باجتماع على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة، بعد أيام من وقوع العدوان، منحوا خلاله موافقتهم على المبادرة المصرية.. وكفى الله المؤمنين شر القتال.
أما الولايات المتحدة وخلفها الاتحاد الأوروبي، فقد أرادت ترك الطرفين في المقلاة، حتى يدمي كل منهما الآخر إلى أن ينضجا، إذ إن مصادرة التحرك نحو استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، تتطلب إضعاف المعارضة الفلسطينية أو تحطيمها إن أمكن، أو استيعابها وإدراجها في العمل السياسي، على أقل تقدير، وتتطلب أيضاً تخفيف التطرف الإسرائيلي الذي أدى إلى إفشال المساعي الأميركية، ومفاوضات الأشهر التسعة.
صحيح إن الإدارة الأميركية اعتبرت العدوان الإسرائيلي دفاعاً عن النفس، وقدمت لإسرائيل 225 مليون دولار لدعم منظومة القبة الحديدية، وأجازت لها أن تحصل على ما تريد من مخازن الذخيرة الأميركية الموجودة في إسرائيل، لكن هذه الإدارة أيضاً رفعت يدها قليلاً عن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي عبرت عن غضبها من السياسة الأميركية.
باختصار، أرادت الإدارة الأميركية أن تقرص أذن الحكومة الإسرائيلية، وأن تجعلها تفهم مدى الحاجة للتوقف عن معارضة المبادرة الأميركية، وعن توجيه الإهانات لرجالاتها.
قطر وتركيا، وأطراف عربية وإقليمية أخرى، تحاولان من مواقفهما الداعمة بقوة لحركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين، أن تقدما الجسر الذي تعبر عليه حماس إلى مربع العمل السياسي والعملية السلمية.
هكذا يكون العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة الذي يدفع سكانه الثمن باهظاً، وكأنه هدف بحد ذاته مرغوب من قبل أطراف كثيرة فاعلة.
وانطلاقاً من ذلك، تبدو المفاوضات التي جرت في القاهرة لبحث المبادرة المصرية ونحو تحقيق اتفاق يؤدي إلى هدنة طويلة، وكأنها المرحلة التمهيدية التي تسبق انطلاق مفاوضات التسوية التي قد تدعو الولايات المتحدة إلى استئنافها خلال المرحلة المقبلة.
المفاوضات صعبة لسببين أساسيين، الأول هو تعدد الأطراف ذات المصلحة واختلاف أهدافها، والثاني هو أن ما يتم الاتفاق عليه يحسب من قبل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على أنه مؤشر على الانتصار أو الهزيمة، كما أنه سيشكل جزءاً من استحقاق المفاوضات السياسية المقبلة في حال استئنافها، ولذلك تحاول إسرائيل أن تقلل قدر الإمكان من الثمن الذي عليها أن تقدمه للفلسطينيين.
والطلبات الفلسطينية في الحقيقة لم تكن زيادة على استحقاقات، عادت عنها إسرائيل بعد أن كانت وقعت عليها في اتفاقات سابقة بما في ذلك اتفاق أوسلو، لكنها أيضاً عنوان تعويض الثمن الذي قدمه الشعب الفلسطيني، وعنوان استجابة للأداء المدهش الذي قدمته المقاومة في الميدان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها