بقلم/ محمد سرور
ما يجري في أكثر من بلد عربي، هو انتكاسه جديدة تصيب القضية الفلسطينية في الصميم.
فهو أولا يجعل من الإدعاءات الصهيونية، بأن "ما يجري في المنطقة ليس بسبب المشكلة مع الفلسطينيين" ادعاء ذا مصداقية، كون الصراعات القائمة فيما بين مكونات المجتمعات العربية أقسى واشد ضراوة من الصراع في فلسطين وحولها، وليس الآن فقط، بل وعلى مر تاريخ الصراعات التي احتشدت فوق ارضها.
وهو ثانيا، يكشف هذه القضية أما العدو، حيث استبعادها من مكانتها التي تستحق، إلى قاع الإهتمام العربي والدولي.
وهو ثالثاً، يخفف على إسرائيل عبئها الأخلاقي التاريخي، بل ويجعلها بريئة من آثامها وجرائمها التي فعلتها على مر تاريخها ككيان غاصب ومتجاوز لكل أعراف الكون وقيمه الإنسانية. ما يحدث في المنطقة العربية - من تجاوز لكل أخلاق وقيم احترام الذات الإنسانية هو الذي منح دولة الإحتلال الصهيوني الجرأة على أن تترشح لمنصب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو منصب احد نواب الرئيس الأربعة ل "لجنة المسائل السياسية الخاصة وانهاء الاستعمار"، حتى لو كان نجاح المرشح بسبب غياب منافس له.
هذا التجاوز الخطير يمنح رئيس وزراء حكومة العدو حق اجتياح الضفة الغربية واعتقال وقتل المواطنين الفلسطينيين، وتهديد غزة بالدمار ودفع الثمن الباهظ، لاعتبار أن عملية الخطف طالت "ثلاثة مواطنين إسرائيليين"- دون الإهتمام بفكرة كونهم مستوطنين معتدين على الأرض والإنسان الفلسطيني، ودون أن يحرك العالم ساكنا تجاه عمليات جيش الاحتلال. من هم هؤلاء الإسرائيليون؟
هذا التجاوز يكشف خارطة العدو السياسية والقاضية بتدمير السلطة الفلسطينية أو انهاكها وتدمير كل ما استطاعت ترسيخه من ثوابت وطنية على ارض الواقع الفلسطيني، ورد الفعل الانفعالي تجاه فريضة المصالحة التي ادى مناسكها خصوم الأمس الفلسطيني المشؤوم.
فالانقسام كان الورقة السياسة الرابحة بيد حكومة نتنياهو، التي استثمرته من كل جهات السياسة، قد خرج من يدها وبات من انجازات الواقع الفلسطيني تجاه تفعيل وتريسخ اطر العمل الوطني الفلسطيني.
الجنون الكبير الذي تعبر عنه ردة الفعل الإسرائيلية- الرسمية والعكسرية هي محاولة مكشوفة، الهدف منها ليّ الذراع الفلسطينية التي استطاعت إنزال العنجهية الصهيونية إلى أسفل الحضيض الدولي، لجهة عدائها للسلام وعدوانيتها غير المتوقفة عند حد، والمستهترة بأبسط قواعد القانون والعرف الدوليين.
لنعترف صراحة بأن نظام الإستبداد نجح في تفكيك وهزيمة النخب المثقفة في البلدان التي حكمها. كما نجح في استحضار القوى المشابهة له كبديل- او فزاعة للقوى الوطنية والديموقراطية. فمن جهة غابت الفعاليات التغييرية والمعارضة التي تستطيع انتاج ثقافة حضارية متقدمة تستطيع محاكاة القرن الواحد والعشرين. ومن جهة ثانية، أضاعت هذه الأنظمة فرصة إنتاج فكر تنويري متقدم يجمع التناقضات الوطنية في إطار عملية الخلق والإبداع التي تدفع بالبلد- أي بلد- إلى الازدهار والتقدم.
إن ازدهار تجارة التطرف دليل حالة مأساوية تصيب جسد البنى الإجتماعية في المكان الذي تنشأ فيه، لأنها نتاج عقم البنية الثقافية والوطنية، ونتاج تضخم اليأس بالنسبة لمسألتي التغيير والتطور.
فقبل أن نرمي بالتهمة على الأميركي والصهيوني، علينا التمعن بالدروس والخلاصات التاريخية المؤسسة لمناخ عصبي مستند إلى الأديان والمذاهب، والذي تأجل منذ مئات السنين، ليعود في الظروف التي تتطلب حضوره، بصفته السلاح الأكثر فتكا وتفكيكا للبنى الإنسانية- الوطنية القائمة.
للدلالة على المخاطر التي تأتي من هذه الآفة الخطيرة ينبغي أن ندقق بتماديها واستهتارها بحياة الناس غير المنتمين لمذهبها الديني والسياسي، وبإيغالها في لعبة التصفية الممنهجة والمعبرة عن حقد أيديولوجي لا يرعى عهدا ولا يحترم ميثاقا.
لا أعتقد أن نظاما سياسيا لدولة تمتلك الحد الأدنى من العلاقة مع الواقع الحضاري والإنساني يمكن أن يدعم ويمنح القوة لهذه الحركات الإجرامية، كونها النقيض التاريخي لمفهوم الدولة العصرية، وكونها العدو الرئيسي للإستقرار والتقدم. فهي اصلا كالطفيليات، لا تنمو الا في بيئة مريضة- تغيب عنها بنية المجتمع السليم، مفككة وصعبة الشفاء.
ولأن الوضع لا يحتمل الميوعة وتاجيل الإهتمام، علينا واجب طرح الأسئلة – حتى لو كانت صعبة، وتمس الكثير من جوهر ثقافتنا المتوارثة، والعميقة الجذور في ذاكرتنا الإنسانية والحضارية. فالحال خطير جدا، إلى درجة مساسه بالعناصر الكيانية المؤلفة للمجتمعات والكيانات والتواصل الاستراتيجي المبني على المصالح المشتركة والأخوة الحقيقية والمصير المشترك الآتي من مخاطر عابرة لحدود القارات والكيانات.
لماذا نستبسل في إذكاء نار الفتنة والأحقاد فيما بيننا، ولا نهادن بعضنا في مسألة عدم جواز وحرمة صراعاتنا في تماديها الدموي، في الوقت الذي نعطي كل الزمن لعدونا كي يستبيح حرمات أوطاننا وكرامات شعوبنا وبالتالي نساعده في الانتصار علينا؟
إن ما يجري حاليا- وبصرف النظر عن القوى والدول الداعمة والمؤيدة لهذا الطرف أو ذاك، هو احتقان قضايا آنية بلبوس تاريخي، يعبّر عنه بسلوك جاهلي فائق البربرية.
أهي حرب بسوس عربية- إسلامية جديدة- متحررة من جاهلية الفكرة وعاملة بجاهلية الممارسة؟
إن انخراط دول في المنطقة في يوميات الصراع الدموي الحالي لهو حفر تحت أساس البنيان الجغرافي- الديني بأسره، وهو تتويج مسبق لنجاح فكرة إعادة رسم جديدة لعالمنا العربي، وفق الإنتشارات الإثنية- المذهبية، وعلى قاعدة تأبيد الصراعات فيما بين الكيانات الضعيفة والمستلبة الناتجة عن ذلك التقسيم.
استثمار خيبات ومظلوميات التاريخ الخاصة بالمذاهب من خلال إسقاطها على ثقافة قبيلية – عشائرية – جاهلية تدّعي الإسلام والغيرة على أصوله وفروعه. وبالتالي التمادي في الكراهية حتى أقاصي الجنون الذي يلغي محظور الحرص على تعايش طالما ضبطه الخوف والرخاء والفقر أحيانا والاستبداد العام غالبا.
فإنزال المقدس من عليائه إلى زواريب التطاحن الطائفي – المذهبي- الإثني- القومي للإستعانة بمكونات القوى المتصارعة في عملية شحن العصبيات المنفلة من أي قيمة أو رقابة أخلاقية- على الأقل، يزيل ذلك القيم الأخلاقية والجمالية للدين، بحيث يصبح كل محضور مباحا في عملية التدمير الشاملة التي يعتمدها كل طرف ضد الآخر، كون قتل الآخر يمنح القاتل جواز مرور الى جنة وعده بها شيخ ذو لحية- متكلف ويدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
نظم الاستبداد اسست لمعارضات توازيها حقدا وثقافة استئثارية- للأسف، فهي حاقدة ولا تحمل سوى البعد الكيدي في مكوناتها وممارستها السلطة. فإزاحة هذا النظام عن عرش جبروته وظلمه لا يعني حضور البديل الأقل استبداداً والأكثر مرونة وتفهما لواقع شعبه وبلده، خاصة اذا ما رأينا القوى الجاهزة لتلقف اللحظة المناسبة للإنقضاض على النظام الراهن.
ما هو نصيب فلسطين من تلك المصيبة؟
إضافة إلى التهميش والبعد عن الذاكرة الجامعة للمحيط العربي ومحاولة كل طرف الاستعانة بها كورقة قوة ضمن ما يملك من أوراق، فهي تفقد حاضنتها القائمة على الإجماع، وجذريتها القائمة على البعد الأخلاقي للعدالة والحق، بحيث تصبح ضحية القوة المتمادية للعدو، والملحقة من خلال مدى خدمتها مشروع هذا او ذاك من المتصارعين الاقليميين، وعلى كلا الحالين تكون هي الخاسرة، لأنها تحبذ التواصل الايجابي من خلال هويتها وبعدها ومضمونها الحضاري- التاريخي. هل يقبل الآخرون موقع ودور القضية الفلسطينية من وجهة نظر المصلحة الفلسطينية ؟
ان مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته تكمن بالسلام الأهلي في الدول التي على أرضها صراعات دموية وتوترات فيما بين أقطابها، وحل المعضلات والمشاكل القائمة بالحوار من خلال انتاج التسويات التي تقتضيها المصلحة الوطنية الخاصة بكل دولة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها