عجّت مجموعة من المواقع المتخصصة بالشتائم وتسويد الوجوه واللطم على الماضي الغابر، والتي تتقصّد إشعال الفتنة بين الفلسطينيين دوما إلى تجريد حملة موازية للعدوان الإسرائيلي ضد شعبنا مليئة بالسّباب ، والتشكيك والاتهام، وتساوق مع هذه "الحملة" غير المؤدبة عدد من ركاب حافلة (الفيسبوك) فانساقوا إلى فوهة جهنم يشتمون ويعهّرون آباءهم و إخوانهم وأولادهم.
هذه المواقع التي تتعمّد عدم التمييز بين الكُل والبعض، أي بين الكثرة الجيدة والقلة المسيئة، وبين العام والخاص، وبين (الظاهرة) المحددة أو (الموقف) وبين صاحب الموقف المتغيّر قطعا، وبين (السياسة العامة) والمناورة، فتواصلت في مسلسل الردح والتشويه بلا رادع ولا ضابط، إذ أنه حينما تغيب الأخلاق والدين والضمير يتحول النقد المطلوب إلى بهيمية تحريضية خالصة
إن التحريض الذي طال الأمة من أطرافها الأربعة يتجه ليأخذ أبعادا إقليمية ضيقة، كما يأخذ أبعادا طائفية مذهبية منفّرة، و كأن لغة "الوحدة" أصبحت عصيّة على الفهم ومرفوضة، كما هو الحال مع لغة العلم ولغة التقدم ولغة التسامح ولغة الرقي، أو كأن التنابذ والتنافر والتعارض والشطط والمغالاة والتقاتل حد الإفناء هو "واجب" لا "سُنّة" أو مكروه أو مرفوض في أمة المسلمين وأمة العرب، وما يصيبنا (بطراطيشه) في فلسطين.
لسنا بوارد الجنوح نحو نظرية المؤامرة التي يتم استدعاؤها في كل مأساة أوملمّة، لأننا نؤمن إن الله غالب على أمره، وان الشعوب دوما قادرة على أن تصنع قدرها (إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد للّيل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر) وعليه فأن النفوس المرذولة لا يبقى أمامها إلا أن تُزيّن الخطيئة لترسمها وكأنها حسنات أو قربى لله أو الوطن، فيقبل عليها الناس على اعتبار ذلك وهم بذلك يخادعون أنفسهم وما يخدعون الله.
دون أن أغرق في سياق مضمون التحريض والشطط الذي تعاني منه الأمة كافة ، ونعاني منه نحن الفلسطينيين منذ زمن طويل ،إلا انه عند كل زاوية أو منعطف نختلف فيه تظهر ثلاثية (التكفير والتخوين والتشهير) سيفا مسلطا على الرقاب، كما فعل ذاك (المفتي) في غزة الذي قال -عام 2007 إثر الانقلاب- على المنبر ( لئن بسطت إليّ يدك ....سأقطع رأسك)؟! في معارضة مغالية ومتطرفة وتحريضية حاقدة للآية الكريمة " لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين"، واليوم نعاني- إثر المصالحة المباركة – من مجموعة من مافيات المتضررين منها الذين عدموا الضمير، وتساوقوا مع نزواتهم ومصالحهم واهوائهم فباتوا "يكيدون كيدا" و "يمكرون " ويضلّلون الجميع في مظهر جديد يقرن الحرب ضد الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع الاحتلال أو يعدّه أولوية عليه، وكأن من يقطع يد أبيه ضَمِن مقعده في الجنة، أو من قَتَل أخيه تجنّب النار فيما كان مرافقا لدعوات الانقلاب فيما مضى.
إن التحريض عالي الصوت اليوم ضد والدي، وضد أخي وأختي، وضد إبني في الأجهزة الأمنية لا يمكن أن أفهمه إلا في سياق ما سبق ، ولا يمكن أن أفهمه إلا دعوة مقصودة لإشعال نار فتنة وحرب داخلية، يصبح فيها حالنا كما هو الحال اليوم بين الإخوة في ليبيا و سوريا و العراق والسودان و اليمن ....الخ،في تعميم (للفوضى الداخلية الخلاقة وما هي إلا فوضى غرّاقة) في قلب وأطراف الأمة.
لست رافضا لانتقاد الأداء أو المواقف أو الحالات أو تصرفات الأشخاص ، (وليس ذواتهم)، بل يجب أن نتسلّح بالشجاعة للنقد وكلمة الحق في مسارها ومكانها وزمانها، إذ لكل شيء شروطه، ولكل شيء محدداته لذلك بالضبط كانت الحرية المطلقة فقط لله سبحانه وتعالى"فعّال لما يريد"، ولذلك كانت الأديان و القوانين والمبادئ عبارة عن أدوات تنظيم (للحرية)، وليس تقييد مرفوض، تمتثل للإلهي والمتفق عليه في التشريع البشري.
إن مساحة النقد في (مكانها) يجب أن تكون مرحابة أما استخدام أدوات الشتم وإخواتها فهي من المُنكَرات والمرفوضات قطعا، ما يلجأ لها الضعيف متسلحا بأدوات أخرى هي أدوات التضليل للرأي العام بالاجتزاء للأقوال أوالتضخيم والتعظيم أوالتهوين ما يلقى هوى في النفوس التي "عليها غبرة".
إن النقد سلاح، ولأنه كذلك لا يُشهر دوما، وإنما هناك آليات تنظّمه، كما هو الحال تماما مع استخدام السلاح الناري أو السلاح الأبيض، أو سلاح اللسان الذي يجب أن يُحسِن التواصل والحديث "أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " "لا يسخر قومٌ من قوم.... " "ولا تنازعوا فتفشلوا..." (الكلمة الطيبة صدقة) الخ ، والذي يجب أن يقترن بضوابط وأخلاق و قواعد (هي عماد كل شيء ليستوي) لا أن ينفلت فيتحول اللسان سلاحا بلا حسيب أورقيب كما هو الحال مع سلاح الخوارج الجُدُد ممن يسمّون أنفسهم (داعش) أو (عصائب الباطل) في العراق، أو ممن يتصيّدون أولئك الكسالى الجالسين على محطة الانتظار لحافلة (الفيسبوك) لتمر و يركبوها، أأحسنت أم أساءت، ظانيّن بأنفسهم يناضلون على لوحة المفاتيح أو وراء شاشة المحمول أو الحاسوب.
يقول الرسول عليه السلام: لا تكونوا إمَّعَة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا ويعلق على الحديث ابن مسعود قائلا:(لا أسوة بالشر). ...
تناثر الشر مؤخرا بشكل يُنذر بحرب داخلية من عدد من المواقع والأشخاص الذين يتهمون و يشتمون ويكفرون ويخوّنون –كالعادة- مَن يخالفونهم، في انقياد للحالة العربية المرهِقة الراهنة، فاتهموا الرئيس، واتهموا القيادة، واتهموا حماس واتهموا حركة (فتح) واتهموا السلطة، واتهموا الأجهزة، فلم يبق أحد من شرهم، وكأن الأمة قد انهارت كليا في محاولات مستميتة للتدمير و التخريب وقصف العقول، يجب أن نجابهها بقوة من جهة، وبمحبة من جهة أخرى، لماذا ؟ لأن من يديرون حرب حافلة (الفيسبوك) وأخواته قّلة مغترّة، ومن يتساوقون معها مجموعة مضلَّله (بفتح اللام) وهي من يجب أن نتوجه لها بالحوار والحب و الاستيعاب وبث الوعي لا البتر والإقصاء.
لن افهم مطلقا أن أشتم الأجهزة الأمنية التي قدمت مئات الشهداء في الانتفاضات المتوالية، و التي رسمت ضياء سماء فلسطين منيرا حتى اليوم بدماء الشهداء في جنين ونابلس و بيت لحم وغزة والخليل وكافة المواقع، حيث وصل عدد شهداء الأجهزة الأمنية في فلسطين منذ العام 1993 حتى اليوم في عام 2014 إلى 3450 شهيدا.
إن الأجهزة الأمنية هي الأجهزة التي يقبع من مناضليها في سجون الاحتلال من نحبهم ونقدرهم ونجلّهم ، ولن أفهم الحملة المسعورة ضد أبناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية – وإن اختلفت معها في بعض المواقف و السياسات – وفيهم أخي القائد البطل الأسير ياسر أبو بكر المحكوم 3 مؤبدات و 40 عاما، كما لن افهم أيضا، وبشكل شخصي بحت وشعبي عام، أن تتّهم بأنها أجهزة خيانيّة أو أنها تحمي (إسرائيل)، وهي حمت – وما زالت- تحمي شعبنا، رغم إجحاف الاتفاقية التي تُنظّم عملها، ورغم بعض التصرفات للقّلة التي لن أقبلها مطلقا ، فتسير في درب أشواك فتتجاوز العقبات لتحفظ الأمن الوطني، وهي التي يشارك أعضاؤها في فعاليات المقاومة الشعبية بصدور مفتوحة حتى اليوم.
لاتُقصّر كوادر هذه الأجهزة الأمنية مطلقا عندما يكون القرار القيادي الموحد بالقتال و الحرب والنزال والنضال الميداني الذي كان ضحيته آلاف الشهداء الذين منهم أخي الشهيد البطل عمار أبو بكر.
لا يمكن أن افهم قائدا يحرض ضد أبيه أو ابنه أو أخيه من الأجهزة الأمنية، وهي في العام الماضي فقط تم اعتقال 109 ضابط وجندي منها، وتمت مداهمة 155 منزل من منازل عساكرها، كما لن أفهم الدافع للقتل الذي أدى للانقلاب عام 2007 بفتوى شيطانية على ما يبدو يتم تجهيز مثلها لدفع الناس للاحتراب الداخلي، فتدور علينا الدوائر فنصبح نحن وجيراننا في حقل الرماية.
إن بعض ناشطي (الفيسبوك) ومواقع التواصل الاجتماعي هم كسالى الناشطين الذين يقضون حياتهم في أحلام خداعة، يُسيّرهم فيها مجموعة من شياطين الأنس التي تقيم في البعيد، وألِفَت نسج الحكايات و الأقاصيص والأكاذيب، وتجرّدت من الدين والضمير و الأخلاق فجعلت من سلاح التشهيرمقصلة كتلك التي أطاحت بصنّاعها في الثورة الفرنسية وغيرها .
إن تُقى الله يأتي باللّين والرفق و المحبة بين الأخوة ، في قدوتنا الكبرى خير نموذج في رسول المحبة والحكمة للبشرية جمعاء محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه الله عز وجل "فبما رحمة من الله لنتَ لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك ، فاعفُ عنهم ، واستغفر لهم،وشاورهم بالأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين".
أفلا نكون له تبعا وقدوة، وألا نكون للسيد المسيح على دربه سائرين حين دعا لأن نحب من أساء إلينا في مذهب العشق لله والبشرية والخلق أجمعين.
إن الرسول الأكرم في مقام (اللين) يتبدى بدرا مضيئا وفي مقام (العفو)يسطع، وفي مقام (الاستغفار) نحبه ونتوسل بدعائه لله، ولسنا بمحبي (الفظاظة) و (الغِلظة) التي تجافي الطبع والخلق و أسس النقد وتشعل نار الأحقاد والبغضاء والتحريض والقتل.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها