استغلت حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو حادثة اختفاء ثلاثة مستوطنين لم يقر أيٌ من التنظيمات الفلسطينية باختطافهم، لشن عملية عسكرية واسعة متدحرجة، بل حرب مفتوحة، على السكان المدنيين في مدن الضفة وقراها ومخيماتها، وإمطار غزة بغارات جوية يومية، وتصعيد التنكيل بالأسرى سواء المضربون منهم عن الطعام منذ 60 يوماً، أو غير المضربين.
إذاً نحن إزاء تصعيد سياسي عسكري إسرائيلي يشبه إلى درجة كبيرة اجتياح الضفة الشامل في العام 2002، ما يفرض على الكل الوطني الفلسطيني ألا يحيد بحال من الأحوال عن رؤية أسباب هذا التصعيد وأهدافه ودلالاته الفعلية، خارج كونه تصعيداً لسياسات الاحتلال أعدت له مسبقاً أكثر حكومات دولة (إسرائيل) المارقة، عنصرية وتطرفاً سياسياً وتشدداً أيديولوجياً.
ولعل كل مقاربة لا ترى الأمر على هذا النحو هي مقاربة قاصرة تنسى - سواء بوعي أو بجهالة - أن الاحتلال باستباحاته السياسية والميدانية الشاملة هو الأصل، وأن كل ما ينتج عنه فروع ليس إلا.
هذه حقيقة لسنا بحاجة للبرهنة عليها، فهنالك حتى جهات سياسية وإعلامية صهيونية تتهم حكومة نتنياهو بتوظيف حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة لمسح مسؤوليتها عن عزلة (إسرائيل) وعدم نجاحها في منع تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية، وعن فشلها في منع الاعتراف الأوروبي بها، والتعامل الأميركي معها، عدا اتساع حملة المقاطعة الدولية لمنتجات المستوطنات والعديد من المؤسسات الثقافية والأكاديمية والاقتصادية الإسرائيلية.
وكل ذلك بسبب أن حكومة نتنياهو هي من أوصل جولة المفاوضات التي رعاها وزير الخارجية الأميركي، كيري إلى طريق مسدود، وجعل من تمديدها أمراً غير ممكن حتى لدى أكثر القيادات الفلسطينية مرونة.
إذ ما جدوى استمرار مفاوضات لا تقدم خطوة ملموسة على طريق إنهاء الاحتلال، ولا تضع حداً لاستباحاته الميدانية الشاملة أو تخففها على الأقل، حيث تم اتخاذ استئنافها لمدة تسعة أشهر غطاء لتصعيد هذه الاستباحات بصورة غير مسبوقة.
فمن تشديد الحصار والاعتداءات على غزة، إلى تكثيف عمليات الاستيطان والتهويد والتفريغ في الضفة، وقلبها القدس، إلى إطلاق يد المستوطنين في الاعتداء على حياة الفلسطينيين ومقدساتهم وممتلكاتهم، إلى اغتيال 50 فلسطينياً، إلى توسيع حملات الاعتقال وتصعيد سياسة التنكيل بالأسرى، بل والتراجع عن التعهد بإطلاق سراح الدفعة الرابعة من "أسرى ما قبل أوسلو".
لقد تمادت حكومة نتنياهو في عنجهيتها لدرجة أن يتعاظم اعتقادها بإمكان الجمع إلى ما لا نهاية بين تصعيدها الميداني الشامل واستمرار "التفاوض من أجل التفاوض"، و"التنسيق الأمني" المجاني، و"التهدئة" من طرف واحد، ولم تنصت حتى لتحذيرات وزير الخارجية الأميركي، كيري، ومساعده الصهيوني، مارتن إنديك، من أنها تقود (إسرائيل) إلى عزلة سياسية وانتفاضة فلسطينية "ثالثة".
لكن لا غرابة، ولا جديد، في أن تتخذ حكومة نتنياهو من حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة ذريعة لشن عملية عسكرية واسعة متدحرجة أعدت لها مسبقاً، فهي بهذا إنما تتنكب نهج خطى حكومات إسرائيلية سابقة، وشواهد ذلك كثيرة، منها مثلاً:
في العام 1982 تذرعت (إسرائيل)، بقيادة بيغن آنذاك، بمحاولة اغتيال سفيرها في لندن، شلومو أرجوف، وشنت أوسع وأطول حروبها على لبنان، حيث زجت فيها ضعف عديد القوات التي واجهت بها مصر وسورية في حرب العام 1973، بهدف القضاء على قوات الثورة الفلسطينية وإضعاف الحركة الوطنية اللبنانية لمصلحة المتعاونين مع (إسرائيل)، بل حلفائها، داخل التركيب السياسي اللبناني آنذاك.
فماذا كانت النتيجة السياسية لتلك الحرب؟ بعد 18 عاماً من تورط (إسرائيل) في المستنقع اللبناني اندحر جيشها "الذي لا يُقهر" بلا قيد أو شرط، بل هرب تحت جنح الظلام ذليلاً في العام 2000.
وفي العام 2006 تذرعت (إسرائيل)، بقيادة أولمرت آنذاك، بحادثة أسر اثنين من جنودها على يد حزب الله، وشنت حرب تدمير ضروس على لبنان، بهدف اجتثاث الحزب وإضعاف معسكره، (8 آذار)، لمصلحة تقوية معسكر خصومه، (14 آذار).
فماذا كانت النتيجة السياسية؟ بعد 34 يوماً من تورط (إسرائيل) ثانية في المستنقع اللبناني تلقت، باعتراف قادتها، هزيمة عسكرية استثنائية أدت إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية، وإلى تعاظم قوة حزب الله وتحوله إلى قوة عسكرية وسياسية إقليمية، تحسب لها (إسرائيل) وحلفاؤها، إقليمياً ودولياً، ألف حساب.
عليه، فإن أهداف التصعيد العسكري الإسرائيلي الجاري في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 تتجاوز هدف "استعادة المخطوفين الثلاثة"، إلى زعزعة أوضاع الفلسطينيين الداخلية وإعادة انقسامهم المدمر، خاصة وأنهم لم يغادروه كلياً بعد.
فحكومة، بل عصابة، المستوطنين بقيادة نتنياهو التي أوقعها تشكيل حكومة التوافق الفلسطينية في حالة هستيريا سياسية لم تيأس، بل تأمل أن يفضي تصعيدها العسكري إلى حل الحكومة الفلسطينية الجديدة، يشجعها على التمادي في عدوانها الصمت الأميركي والأوروبي، والانكفاء العربي على الهموم الداخلية التي زادتها التطورات المفاجئة والخطيرة في العراق تعقيداً على تعقيد.
لكن رغم ذلك، وفي الحالات كافة، فإن من شأن تنمر جيش الاحتلال على الفلسطينيين المدنيين أن يزيد مرجل الحالة الشعبية الفلسطينية غلياناً. فجرائم جيش الاحتلال لن تردع الفلسطينيين ولن "تكوي وعيهم" المقاوم، كما تعتقد فرضية صهيونية قديمة ثبت بطلانها، وتخلت عنها أوساط سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية إسرائيلية ما انفكت تحذر حكومة نتنياهو من مغبة الاستمرار في هذه اللعبة الواهمة التي أورثت (إسرائيل) مفاجآت اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى في العام 1987، واشتعال "هبة النفق" المسلحة في العام 1996، واندلاع "انتفاضة الأقصى" في العام 2000، وصولاً إلى مفاجأة اختفاء ثلاثة مستوطنين بما تنطوي عليه من دلالات سياسية، جوهرها: بوسع حكومة نتنياهو أن تتمادى في حلولها العسكرية والأمنية كما تشاء، لكن جرائمها لن تدفع الشعب الفلسطيني إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء، وأن سياساتها التي تستبيح فلسطين شعباً وأرضاً وحقوقاً وكرامة هي وصفة سحرية لتحويل الهبات الجماهيرية الفلسطينية التي لم تنقطع إلى اشتباك واسع وممتد ومتصاعد تقدم الأمر أو تأخر. أما لماذا؟
من دروس تجربة النضال الوطني الفلسطيني أنه كلما تزايد قمع الاحتلال ارتفع منسوب المقاومة بالمعنى الشامل للكلمة، فما بالنا عندما ترفع حكومة نتنياهو منسوب هذا القمع وجرائم الحرب الموصوفة إلى حدود غير معقولة؟! لكن يبدو أن فائض أيديولوجية هذه الحكومة قد أعمى أركانها لدرجة نسيان أن "جيشهم النووي" فشل في إخماد انتفاضات شعبية حيدت إلى درجة كبيرة تفوقه التكنولوجي، وتفوقت عليه سياسياً وأخلاقياً وكبدته خسائر فادحة.
إذ ألم يتبجح رابين كوزير للدفاع في حكومة شامير عندما أجبره اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987 على قطع زيارته للولايات المتحدة بالقول: "سوف أضع حداً لأعمال الفوضى والشغب في ثلاثة أيام"؟! فماذا كانت النتيجة؟ سبعة أعوام من الانتفاضة لم ينفع لوقفها تنمُّر "الجيش الذي لا يقهر" بإطلاق النار على الأطفال والمدنيين، عدا اللجوء إلى سياسة "تكسير العظام" والزج بآلاف النشطاء في المعتقلات العسكرية التي أقيمت على عجل لاستيعاب ما عجزت عن استيعابه السجون القائمة آنذاك، وما أكثرها.
هنا ثمة درس لمن يريد أن يفهم راهن الصراع ومآلاته المستقبلية فهماً موضوعياً يرى أن سياسات الاحتلال التي تستبيح فلسطين شعباً وأرضاً وحقوقاً وكرامة هي في نهاية المطاف ما يدفع الحالة الشعبية الفلسطينية مجدداً نحو انفجار كبير ضد احتلال غاشم لن يرحل إلا إذا تحول إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة، وأن المقاومة الفلسطينية بمعناها الواسع لم تكن يوماً خياراً ذاتياً، بل خيار مفروض لمواجهة احتلال عنصري ينكر وجود شعب فلسطين، وإقصائي لم يتردد في التخطيط لإزاحته بالتطهير العرقي من التاريخ والجغرافيا والسياسة، بل ما انفك يمارس كل ما من شأنه تفكيك وحدته وضرب هويته وتدمير ميكانيزمات وجوده وتطوره، فيما تتمادى حكومة نتنياهو في إطلاق يد جيشها لإدماء الفلسطينيين والتنكيل بهم، بذريعة البحث عن ثلاثة مستوطنين.
وكل ذلك في إطار وهمها السياسي بإمكان فرض الشروط الصهيونية التعجيزية الناسفة لكل إمكانيات التوصل إلى تسوية سياسية للصراع تلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها