انزعجت حركة "حماس" من تأكيد الرئيس محمود عباس، على أن لا مصالحة دون انتخابات. وربما يكون زائرو الصيف، الذين عاشوا أسابيع في غزة ثم غادروها؛ في طليعة الذين أدركوا بالملموس، سبب تعطيل المصالحة، وهو خشية الحمساويين من الانتخابات، بعد أن انهارت أمام عيون الشعب الفلسطيني، كل المعاني التي صعدت هذه الحركة بشفاعتها، الى المركز الأول في انتخابات كانون الثاني (يناير) 2006. فقد تحولت مزاعم الزهد والعدالة والتقوى والنـزاهة والتغيير والإصلاح والمقاومة؛ الى مفارقات كاريكاتورية، قياساً على سلوك الجشع والظلم والمروق على الدين، والفساد والتغيير الى الاسوأ، والتوغل في طريق الانحراف، ومنع المقاومة. ومع الأخذ بعين الاعتبار، أن العودة الى الشعب، وأن الديمقراطية مع الحرية هي سؤال المستقبل، وأن الاستبداد والتفرد، صار من الماضي؛ فإن "حماس" بعنادها وبتعطيلها للمصالحة، لا تفعل سوى التوغل في الخسارة، حتى وإن نجحت في إطالة عمر حكمها في غزة، بالقبضة الحديدية وبالكذب والمناورات الركيكة. إن سؤال الحرية والخيار الشعبي الحر، هو هاجس الناس، وهو الذي ينبغي أن يسري على طرفي الخصومة. هو ليس سؤالاً أقلوياً أو فصائلياً أو هامشياً. فالفلسطينيون يدركون مدى الخسارة والمرارات التي تتراكم، كلما تأخرت القوى السياسية، في بناء وحدة وطنية جديدة، أساسها التعددية والإرادة الشعبية ذات مشروع الخلاص من الاحتلال. أما الاستبداد والتفرد والنعرات والطنين المخادع، فإن من شأنها كلها تحنيط أسئلة الحياة. والوطنيون معنيون باستعادة حق الناس في صناعة حياتهم، لكي يفتحوا أمامهم أبواب الاستقلال والحرية والتحقق الوطني!

خط التماس الماثل أمام أعين الفلسطينيين، بين قوى الانقلاب التي تحاول إدامة الخصومة وتكريس القسمة من جهة، والمتعطشون للمصالحة وللحياة السياسية الوطنية الطبيعية من جهة أخرى؛ بات مُختزلاً في السجال بين من يرفضون الخُطى في اتجاه التهيؤ لانتخابات، والطرف الذي يستحث هذه الخطى ويشترطها. على خط التماس هذا، تلكأت "حماس" في الموافقة على السماح للجنة الانتخابات في غزة، ولما وافقت على مضض، حاولت التعطيل باشتراطات تتعلق ببنية لجنة الانتخابات وبـ "تحديث" قائمة موظفيها، بدل تحديث السجلات الانتخابية. ثم انتقلت الى خطوة إيقاف عمل اللجنة. والآن هي تدفع في اتجاه مصالحة، تُبقي على الحال، وتحافظ على السيطرة الأمنية الإكراهية، على المجتمع الفلسطيني في غزة. ولما اشترط الرئيس عباس، أن يكون التوجه الى العملية الانتخابية، هو برهان الصدقية وشرط المصالحة، رفضت "حماس" وتطيرت. وفي كلا الأمرين البرهان والشرط لا يطلب الجانب الوطني، شيئاً لنفسه، وإنما يتطلع الى استعادة الشعب لحقه في الاختيار، بعد سنوات مليئة بالأحداث والتجارب!

كانت الحركتان، توصلتا في القاهرة، في الجولة الأخيرة من المناقشات، الى تفاهمات حول آليات إنهاء هذا الوضع الوطني الخانق. لكن الأمور تداعت بعدئذٍ من الجانب الحمساوي الذي يخشى الانتخابات. ومؤخراً، اتفقت الفصائل في غزة، على تجديد نشاطها بعد عطلة عيد الفطر التي انتهت أمس، وعنوان مساعيها هو العودة الى تطبيق ما تم التوافق عليه في القاهرة.

متى ستظهر على "حماس" عوارض التقبل لعلاج الشلل الوطني والكف عن حمل راية الخصومة؟ وأي مشروع تقاوم "حماس" باسمه ولأجله، وحدة الكيانية الوطنية الفلسطينية وإعطاء الشعب حقه في اختيار من يحكمونه ويقودون مسيرته الى الاستقلال والحرية؟ وماذا تريد بعد أن نفدت الأراضي الأميرية الصالحة للبيع ولجباية رسوم التسجيل، وبعد أن تشبع أصحاب الأنفاق مالاً، وبعد أن اغتنى باسم الزهد والفضيلة، كل من كان بمقدوره أن يغتني، وبعد أن مُنعت المقاومة، وبعد أن اكتملت جولات عربية وإسلامية تُرسم فيها إشارة النصر، وبعد أن توغلت نصوص التصريحات في الجنون، وبعد أن عاف الناس حياتهم في غزة، وبعد أن تراكم شوق الأهل للأهل، وصار المعبر مفتوحاً أو مغلقاً هو القضية، وبعد أن عرف الناس، أن الفاسد الاستثنائي، من أفراد شرطة سلطة "فتح" على المعبر، كان يتقاضى للتسهيل مئة شيقل ثم يُعاقب إن اكتشف الآخرون أمره، ثم رأوا كيف أصبحت الرشوة التي يتقاضاها "المتوضئون" نظاماً للتسهيل، بمئة وخمسين دولاراً "نظامية"؟ ماذا تريد "حماس" سياسياً و"جهادياً" بعد أن صعد الى سدة الحكم في مصر، رئيس إخواني لم تظهر عليه علامات الزلزلة "الجهادية" والتزم أنشودة "السلام" العادل الذي نريد؟ ماذا تريد "حماس" بعد كل هذا؟ وبشفاعة أي مشروع؟ وبأمارة أية علامة فارقة، أو أية ميّزة إيمانية زاهدة؟! لقد طفح الكيل، حتى بتنا نتوخاه حراكاً وطنياً شعبياً فصيحا، يصحح مسار الأيام، ولا يتقدمه فصائليون متلعثمون، يدارون ضعفهم، بتحميل "الطرفين" المسؤولية. فالمسؤولية تقع حصراً، لمن يتطيرون من فكرة الانتخابات ولا يطيقونها!