على الرغم من العاصفة التي تضرب عميقاً وبقوة، في المنطقة، وتضيّق علينا الخناق وتتهدد مصير القضية الفلسطينية؛ إلا أن القائمين في غزة، على حراسة زمنها الرديء، ويتمسكون بالخصومة والشقاق، لا يدركون مخاطر ما يمر به شعبنا وقضيته، ويراوغون ويتشاطرون، كأنما يتوهمون أو يحاولون إيهامنا، إن فرقاناً لصالحهم قد أوشك على الوقوع، وأن الوقت يمضي لحسابهم وليس على حسابهم وحساب الكل الفلسطيني.

كلما قال متفائل وطني، لا بد من النظر في آليات تطبيق ما تم الاتفاق عليه؛ يجيب حمساوي يتوهم بأنه الأفصح والأبرع والأقدر على الإمساك بمصائر خلق الله، بكلام يتشبه بالسياسية فيختلق أعذاراً ويقلب الأولويات كأنه الخبير الاستراتيجي الذي لا يشق له غبار، ذلك علماً بأن السياسة ومعايير العمل وفق معطيات الاجتماع السياسي للشعوب هي أبعد ما تكون عن تأهل جماعة "الإخوان" وثقافتها، بل إن الجهل بالسياسة وبمعطيات الحياة والوقائع من كل جوانبها، يعدُ سمة كارثية تتسم بها هذه الجماعة في كل مكان!

إنهم الآن، يقيسون كل الأمور على مسطرة هواجسهم واشتراطات بقائهم في حكم غزة الذي يظنونه مجداً. كأنهم يتلذذون بمظاهر سطحية توحي بهيمنتهم وبرضوخ الناس، وبخاصة عندما يطبقون على السكان إجراءات شبيهة بإجراءات الاحتلال، مثل شرط الحصول على ورقة "عدم الممانعة" للسفر الى الضفة أو الأردن، وتوجيه الاستدعاءات الخطية وإجراء المقابلات الأمنية والانسياق مع غريزة التقليد الأعمى لجنود الاحتلال في استفسار العابرين وتوجيه الاسئلة عن دواعي السفر وعن الجهة التي يقصدها العابرون، وعن الناس الذين يقابلون.

إن كل ما يجري الآن يدل بوضوح على أن سيطرة "حماس" على غزة، تلبي حاجات إسرائيلية سياسية واستراتيجية. وبغير إساءة الظن في النوايا والمقاصد، نقول إن المتنفذين الحمساويين، يتعمدون إدامة فعل الهيمنة على غزة بموجب حسابات قاصرة، إذ استبدت بهم هواجس مريضة، منها التخوف من المجتمع الفلسطيني، مع بقايا أوهام حول مدد يأتي من سائر أرجاء "الجماعة" في الإقليم، وربما من المجالس البلدية التركية. وللإسف إن هؤلاء الذين ركبوا موجة الطهرانية ورفعوا شعار المقاومة التي لا تتثاءب، وهم لا يعرفون شيئاً عن الضرورات الاجتماعية والاقتصادية لاعتماد هذه المقاومة؛ أوصلوا غزة الى أوضاع لا يجهلونها. بل إن في غزة اليوم، قد نشأت ظواهر مرضية وأعمل اليأس فعله، وفعلت الفاقة فعلها الطبيعي في كل مجتمع، واتسع العالم السري لتعاطي أقراص الغيبوبة ويتسع على نحو مقلق هامش ممارسات وظواهر شائنة لم يعرفها مجتمع قطاع غزة، وهي النتاج الطبيعي لانعدام الأفق، ولافتقار الناس الى الخبز. فإلى أي مآل يأخذ هؤلاء الناس في غزة وهم الذين ركبوا موجة التضحية والمقاومة والأخلاق؟!

حيال هذا البلاء الذي أصابنا، يظن البعض أن الأذى الذي أوقعته "حماس" اقتصر على غزة. صحيح إن أذاها المعيشي والنفسي كله، وقع على غزة؛ لكن الأذى السياسي ما زال يقع على الضفة في الوطن، إذ تعطلت مؤسسات النهوض بالاجتماع السياسي وظلت الحياة رهناً لتسيير الأعمال. وبغياب مؤسسة الرقابة والتشريع تراجعت منظومتي القضاء والإدارة. وكلما دعا داعٍ الى تعديلات في قانون الانتخابات، لكي يُصار الى استعادة مؤسسة الرقابة والتشريع، بمشاركة غزة في الترشيح دون التصويت في حال منعت "حماس" مشاركتها بالقبضة الأمنية الميليشياوية؛ سرعان ما يعلو الصراخ أن المصيبة ستكون في هكذا انتخابات. فهؤلاء لا يريدون العودة الى الشعب لكي يقول كلمته. لأن الكلمة في أوهامهم هي للشعب التركي وللمرشد المصري في سجنه ولقناة "الجزيرة" التي تلعب بمشاعر خلق الله وترقص على جراحهم وتفضح نفسها وباتت بأقل من خُمس تأثيرها.

في ختام هذه السطور، لا يسعنا إلا إسداء النصح لحركة "حماس" بأن تنتشل نفسها من هذا المأزق باحترام إرادة الفلسطينيين، وأن تتعرف على المخاطر الحقيقية التي تتهدد الفلسطينيين جميعاً في هذه اللحظة. فلا تغرنها السيطرة على غزة، وتخطيء جداً إن صدقت كلام التصالحيين الفتحاويين الذين يغذون عندها الإحساس بالأهمية القصوى وأن مصالحتها مطلوبة بدون اشتراطات دستورية. ففي داخل المجتمع الفلسطيني في غزة، ينمو تيار شعبي ناقم إن أنفجر أو سنحت له الفرصة، لن يصغي لكلام التصالحييين. إن وضع "حماس" خانق من كل الزوايا، فلا أمل في استعادة الأنفاق والانتعاش، ولا ثغرة في الانسداد المصري أمامها، ولا قيامة جديدة لجماعة "الإخوان" ولا مجال للمقاومة والمناورة مع العدو، ولا مآثر تلقى إعجاب جزء من الفلسطينيين، بل إن النقد والنقمة يستشريان في داخل المجموعات المنتمية نفسها، ويختزن المجتمع عن "حماس" كل ما هو ذميم، بالتالي لا مستقبل لمن يقامر بمصير القضية، ويتمسك بمصير الجماعة. إن الذهاب الى مصالحة على أسس دستورية وقانونية، هو خشبة النجاة الوحيدة المتاحة. فإلى المصالحة التي لا يصح أن تكون فهلوية وكاريكاتورية، ولا نقبلها بدون شروطها الدستورية والقانونية التي تسري على الجميع. فالجميع لديه ما يكفيه من الأخطاء والنواقص.