في تكوينات الرجال عناصر ضعف. عندما يشتد ضعفها تظهر في مظاهر استقواء نازعة الى المكاسرة مع كل من تختلف معه، فإذا ما كان هذا المختلف ضعيفا، لا بذاته، بل بالظروف والشروط الموضوعية التي تحكمه، كسره المستقوي عليه، شأن الرئيس الاميركي جورج بوش والرئيس الراحل ياسر عرفات، غير ان الضعيف او المستضعف القوي بذاته، يخرج من الكسرة بقوته الذاتية رافلا بالعز، شأن الرئيس عرفات الذي بقي جسدا ضئيلاً مع كثير من الروح وقليل من النّفَس، أياما ثم فقد جسده الروح، فانتشرت روحه في شعبه وفي العالم، إذن فقد بانت قوته وبانت قوة شعبه القوي المستضعف، وكان ذلك تتويجا لقوته في حصاره للحصار الضيق والطويل، والذي كان عمره فيه يزداد عاما في اليوم الواحد، محققا نسبية لم يبلغها آينشتاين، في علاقة الزمان المكثف الذي ينحل الى أزمنة متطاولة، اذا ما أحسن الجدل، مع مكان مكثف مثل رام الله (ربوة الله) على مرمى قلب ويصير كبيراً من القدس، من الاقصى والقيامة، كثافة الروح والريح والتاريخ، كما ان الضعيف المستقوي بمؤثرات خارجة عن ذاته روحا وعقلا وثقافة ووعيا، اي الضعيف بذاته القوي بغيره (الآلة الحربية مثلا) يخرج من كسره للآخر، شكلا لا مضمونا ومؤقتا لا دائما وإن طال الزمان، مكشوفا في ضعفه، مخذولا في داخله، شأن الرئيس جورج بوش الذي تعامل مع مرض عرفات وإشرافه على الموت في الايام الاولى بطريقة باردة حاشدة بالشماتة، شماتة الضعيف الذي يستنصر بالقدر، او بالسم، اذا ما أعوزته الحيلة في إطفاء جذوة لم يدخر وسعا في اخمادها فازدادت اوارا وألقا ومعنى.. فأبنت ادارته عرفات بقليل من العاطفة المستعارة او المزورة عندما سكت نبضه وعلا صوته من موته، وأوفد بوش ممثله "بيرنز" للتشييع، حشر نفسه في المشيعين الآتين من خلافات سياسية معقدة مع العرب والمسلمين ومع جيرانهم طولا وعرضا، ولكنهم آتون ايضا من مخزون انساني محفوظ في أعماق انفسهم ومدخر للمنعطفات النوعية في الحياة، كمنعطف وفاة عرفات اغتيالاً، بما هو موته مؤشر على ماض درامي وفاتح على مستقبل ان لم يتداركه العقل والعدل اصبح وبالا على الظالمين وأهل الظلام. وفي تكوينات الناس عناصر قوة، قد تتوارى عن الانظار نتيجة ظروف معاكسة، فيلتبس الرجال الكبار الكبار بغيرهم، الى ان يحدث المتحول، التحدي، فتراهم ينهضون اليه مستحضرين قوتهم الاصيلة الاصلية وتكوينهم الانساني العميق، فإذا سر القوة او القوة السرية في شخصيتهم تتجلى رقة وحبا وشفافية وتواضعا وانحناء حانياً وجليلاً من الرئيس شيراك على جثمان الرئيس عرفات، ارتفعت به قامة شيراك فوق كل القامات المتعامدة في الفراغ، وكأن عرفات الاقصر قامة والأعلى مهمة، ينهض من نعشه مسامتا لشيراك طولا وعرضا وإشراقة وجه ولغة وذاكرة وحلما، انها فرنسا المنجز الحضاري، رغم ذكرياتنا الجارحة التي قطعناها لأن فرنسا ألزمتنا اخلاقيا بهذه القطيعة الرائعة، اي بالوصلة مع حاضرها، هذا المنجز كان شيراك الحزين على عرفات السجين الدهري، جسده الفرنسي العملاق، يحميه حتى لا تبدده رياح الامبراطورية الاميركية العاتية الهوجاء، والتي تهب على زرعنا وارضنا وأشجارنا وعمراننا وأطفالنا وقيمنا ومستقبلنا، من مهبها الرديء في تل ابيب، لتلفح عما قليل وجه الشعب الاميركي الذي تدفعه ادارته الى العيش خارج مكوناته الانسانية، في صحراء من الوجدان وخلاء من العقل والروح.

لقد أحدث جاك شيراك خرقاً في ذاكرتنا عن الاستعمار الفرنسي، تماما كما رسخ جورج بوش القطيعة مع المشرق من التاريخ الاميركي، مع شرعة حقوق الانسان وعصبة الامم والموقف من العدوان الثلاثي على مصر... وكأنه اختار تبني الأسوأ في تاريخ فرنسا من الانتداب الى العدوان الثلاثي الى الاستعمار، وفي الجزائر خاصة، وكأن جاك شيراك خلف لجورج واشنطن المؤسس وويلسون المحرر والمشرع، وكأن جورج بوش خلف لغورو وغي موليه...وبيتان.

بودي ان أعرف شيئا عن ثقافة جورج بوش، ماذا قرأ من الشعر الاميركي والرواية الاميركية، هل قرأ ارنست همنغواي مثلا؟ وأنا أقطع بأن جاك شيراك قرأ روسو ومونتسكيو وأراغون وبول فاليري وبلزاك وهيغو وكامو ومالارميه وبريفير والطاهر بن جلون وأندريه شديد وأمين معلوف ومحمد إقبال وحافظ وسعدي وطاغور، من هنا كانت رقته وجماله وحرصه على إطلاق سراح سهى بشارة بالتفاهم مع الشهيد رفيق الحريري لاسباب قانونية.. ويكفي أن تلتزم بالقانون لتكون إنساناً.. واستقواؤه بالروح على المادة الاميركية الطاغية الهاجمة على اوروبا لتنزع منها ثقافتها، فمن أين أتت قسوة بوش وجفوته وجفافه وفجاجته؟ لعلها أتت من التعاطي الآلي الجاف، الجاهل، مع أرقى ما توصل اليه العلم الاميركي، مع الحاسوب، الذي يحسن الحساب، ولكنه لا يستطيع قراءة الانسان، قراءة الروح، قراءة الاشواق والأحزان والافراح. كأن علماء اميركا المساكين محكوم عليهم ان لا يستفيد من علمهم الا الجهلاء من حكامهم، كأن قدرا قد رافق عرفات من مولده الى موته، كأن إكسير الدراما في جيناته، من أحداث قاتلة مر بها، الى حادثة الطائرة، الى الحصار، الى هذا الموت المأساوي الحافل بالمعنى والمبنى، هذا المستضعف القوي الجبار خرج من زنزانته في رام الله، ليصفع وجه الاقوياء الظلمة بآلام الصناديد المظلومين، من المسيح الى الحسين، من الجلجلة الى كربلاء... كأنه القدر وأسلم الروح في الساعة الاخيرة من ليلة القدر، التي يروى ان الارزاق والحظوظ والاعمار تقدر فيها، كأن قدره كان ان يحيا في موته ليموت آخرون في حياتهم. ويدفن ابو عمار في رام الله، وديعة ريثما يعود الى القدس حيا في عيون الاحياء الاحياء، ميتا في عقل الميتين وان قاموا او قعدوا وأكلوا وشربوا وحكموا وقالوا وقتلوا وكذبوا.. ومتى... متى نام ابو عمار على تراب القدس، في اللحد المتحرك، هذه ليست بدعة، هذا إبداع فلسطيني، وكأن أبا عمار لا يقدر على السكوت والسكون كما كان، فكان قبره المتحرك ليستمر في حركته، وتستمر حركته على ايقاع حركته... ينصهر جسم ابو عمار في تراب القدس ام يتحول التراب الى لحم ودم وعظم فلسطيني يدخل في الجثمان فيعيد تأسيسه على معادلة فلسطينية جديدة؟ لا أدري، ولكنه يوم الجمعة، آخر جمعة من شهر رمضان، الذي قضى ابو عمار معظمه مريضا لا يقوى على الوقوف، ولكنه تقوّى على الصوم.. لقد ارتفع.. وفي اللغة العربية الصوم ارتفاع.. ويقال صام النهار اي ارتفع، اي بلغت الشمس كبد السماء، وزال الظل، وأذن المؤذن لصلاة الظهر، وانكشف كل شيء.. توقفت الظلال عن الخداع، وعادت الحقيقة والاحجام الحقيقية الى الظهور.

عمت صباحاً وظهراً وعصراً ومساءً وسحراً، أيها الذي كان رئيساً لبلاد الغال في فرنسا أراغون وجان دارك، وصار رئيساً لقلوب رفاق ياسر عرفات وأحبابه ومحبيه.. الطيب الأروحة، جاك بن شيراك، الغارق في نسيانه الآن، ولا ننساه، كأنه الحب.. وهو الذي قرأ واستمتع بمديح الظل العالي وأحمد الزعتر من ديوان محمود فلسطين، وقرأ الزيتون والميرون والمعمدان ويسوع الملك، في ديوان أبي عمار، أي عينيه وشفتيه المنذورتين للغضب والقبل، وكوفيته اللواحة في سهل بيسان، وسبابته التي تبعثر هواء التاريخ، في مرقده، روضته، مثابتنا في لحظات الشوق والوجع والرجاء والأمثولة، ومزارنا وأنسنا في ليالي السهر وأيام الصّهر.. ومقيلنا.. في المقاطعة، حيث نبترد من حر وندفأ من قر.. ونغني مع الحادي ومع بشار بن برد:

"يا بيت عاتكة الذي أتعزل

حذر العدا وبه الفؤاد موكل"

ومع الجواهري:

" ولثمت جرحك في فتحة

هي المصحف الطّهر إذ يلثمُ "

" سقياً لمثواك من مضجع

تنوّر بالأبلجِ الأروعِ".