لا شكّ أنَّ هذا التساؤل هو سيد الموقف في مختلف اللقاءات والجلسات، في المكاتب والبيوت والطرقات، يسأله المدرك والمتابع والمحلِّل، كما يسأله الانسان العفوي، والجميع متشوِّق أن يسمع الاجابة الشافية من هذا المسؤول أو ذاك ليهدّئ حالة الاضطراب عنده، وحالة عدم الاستقرار التي تسيطر على النفوس قبل العقول، فالخوف على المستقبل، والتخوُّف من الحاضر، ومعاناة الماضي كلها تنصهر لتنطلق بالسؤال المعهود عسى أن يجد السائل في الجواب دواءً مسكِّناً، أو شافياً.
ولأنني لا أشك في نيات السائل ولا خلفياته صممت أن أُقدِّم ما عندي بشكل موضوعي، ومن أجل ذلك سألته ومن باب التوضيح فقط: هل هناك موضوع محدد تريد الاجابة عليه؟ فقال لقد علَّمتمونا منذ السبعينات بأنَّ حركة فتح هي العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأنَّ م.ت.ف. هي القائدة والرائدة للقضية الفلسطينية، فهل ما زال العمود الفقري بخير؟!
قلت: بداية أنا متفائل، ولن اكون متشائماً، وليس من حق الانسان الفلسطيني ولا حتى أبناء القضية بغض النظر عن جنسياتهم أن يتشاءموا، فالتشاؤم يعني بداية الإنهيار، وطبيعة الصراع القائم ضد الاحتلال لا تسمح لكل من يتمتع بالانتماء الوطني، والالتزام الثوري أن يغيب عن ساحة الفعل ودائرة التغيير والمواجهة، فالجبهة يجب أن تبقى قائمة ومشتعلة حتى لا ينهار مجتمعنا من الداخل بفعل أوبئة التشاؤم واليأس والاحباط.
إذا كانت هناك بعض الظواهر والمواقف تدعو فريقاً معيناً إلى التشاؤم، إلاّ أنَّ هذه الحالة المرضية يجب أن تجد حولها قيادة طليعية تعالج الأسباب، وتحاصر عوامل الاحباط، وتزرع الامل لأن هذه الطليعة تؤمن بأنَّ الصراع مع الاحتلال سيتواصل، وأننا أصحاب الأرض والحقوق، وان الاستسلام لعوامل اليأس يعني التخلي عن قلعة مهمة من قلاع المواجهة، وأنَّ حماية الجبهة الداخلية يكون بالتصدي للإشاعات، والتحريضات، والمغالطات، وتضخيم الصغائر، واطلاق الكلام على عواهنه، والتطاول على كرامات الآخرين، ومقاومة الطابور الخامس.أنت محقٌّ عندما بدأت بحركة فتح كعمود فقري، ومخاوفك على واقع حركة فتح، وحرصك على دورها الريادي جاء في محله، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على مكانة حركة فتح في نفوس وعقول أبناء شعبنا الفلسطيني سواء كانوا من تنظيم الحركة أم من أبناء الشعب الفلسطيني أياً كان انتماؤه، لأنَّ الغالبية العظمى تعتبر حركة فتح حركتها، ومصيرها مرتبط بمصير الحركة، وأنَّ من حقها أن تقول رأيها، وأن تنتقد السلوك الخاطئ.
أنا لست متشائماً، ولن اكون متشائماً طالما حركة فتح حركة وطنية ثورية جماهيرية، تؤمن بحق التعبير، والحوار، والنقد والنقد الذاتي، وترفض كافة محاولات كمِّ الأخوة، وقمع الأفكار المعارضة، وميزة حركة فتح أنها حركة لا تقبل التدجين، وأن القرار للإطار وليس لأشخاص، وأنّ الأُطر الحركية أُطرٌ قيادية مسؤولة وليست إمارات، ولا تكتلات، ولا محاور. وعندما تبرز ظاهرة من هذه الظواهر المعينة في جسم الحركة يجب أن نقرع ناقوس الخطر، وأن نبادر إلى المعالجة السريعة، وأخذ الاجراءات المناسبة، قبل أن تستفحل مثل هذه الظواهر ويتجرأ الطامعون على تقاسم اطر الحركة وتاريخها، لتكريس واقع جديد يخدم أشخاصاً، ولا يخدم العمل الفتحاوي.
أنا لستُ متشائماً لأن من زرع نبتة فتح وبذرتها الطيبة هو ياسر عرفات وأصحابه الأوائل، رحم الله من رحل منهم، وأمدَّ بعمر من بقي، ولأنَّ الزارع كان طيباً مؤمناً فإنَّ النبتة لا تبور، ولن تبور، والنبتة فيها أسرارٌ، أول الاسرار بسم الله، والثاني اتكالاً منَّا على الله.
حركة فتح ستظل مستهدفة، ومرمىً للنبال، وحولها تدور الدائرة، لأنها القلب النابض، ولأنها البدر الذي يُفتقد في الليلة الظلماء، ولأنها حجر الرحى، البعض يرى فيها مطمعاً لا مطمحاً، وتجارةً لا وقفاً، يستلون خناجرهم وسيوفهم ليقتسموها حصصاً من أجل أن تتفرَّق دماؤها بين عشائر قريش وينتهي الأمر. لقد غاب عن بال هؤلاء وعن حساباتهم أن حركة فتح "الوقف" لها "رصدٌ" و "رصيد"، أما الرصد فهم الشهداء يحمون فتح في عليائهم، وأمَّا الرصيد فهم الأوفياء، ولذلك أنا متفائل، لكن على كل واحدٍ منا أن يقرِّر موقعه في الصراع، هل سيكون على مقاعد المتفرجين، أو مع الطعَّانين، أو مع الأوفياء حملة رسالة الشهداء.
أنا لست متشائماً لأنَّ الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن حركة فتح وُجدت لتبقى، وأنها ثورة حتى النصر، وحملة الراية في حركة فتح يتسلحون بالمصداقية، والأمانة، والتحدي ، ويشدون على وجودها بالنواجذ، يرفضون المساومة، يقبضون على الجمر وعيونهم تحرس أثمن انجاز وطني فلسطيني.
قاطعني السائل: برأيك هل المشكلة فوق أو تحت؟
فقلتُ: برأيي إن هناك إشكاليات فوق، وهناك إشكاليات تحت، أمَّا الصنف الأول من الإشكاليات التي لها مواصفات وحيثيات معقدة فهذه الامور مطلوب معالجتها من الإطار الأعلى ،وليس منك أنت في الشعبة أو في المنطقة ، لأن الإطار الأعلى أدرى بأصولها وخلفياتها ، ولا يجوز للأطر الادنى أن تتعب نفسها في متابعة ومعالجة أمور ليست من اختصاصها لأنّ هذا النهج سيزيد الأمور تعقيداً وإرباكاً ، وسيزداد الشرخ من أعلى إلى أسفل.والخطيئة تبدأ عندما تُسقط الأطر العليا إشكالياتها على الاطر الأدنى دون رحمة.أما الاشكاليات التحتية فحلها بنسبة عالية يعود إلى الأطر الدنيا نفسها ،لأنّ الأطر القيادية العليا لا تفرض على الأطر الدنيا أن لا تجتمع ، أو ان لا تنشط في إطار برنامج مدروس ، أو أن لا تربط علاقات اجتماعية ناجحة ، أو تمنع الانشطة الاعلامية والسياسية اليومية كالندوات والاحتفالات ، والاعتصامات ، وعقد جلسات الحوار، ومتابعة الهيكليات ومعالجة الثغرات ، وإقامة الدورات، وأخذ الاجراءات لمحاسبة عناصر السوء ، وضبط الإطار ، وتعميم ثقافة السلوك الحركي.
أريد القول يا أخي أنه علينا أن نقوم بواجبنا ولا عائق أمامنا يُذكر ، وعلينا دائماً أن لا ننظر إلى فوق كي لا نتعب ونسقط ، ولننظر دائماً إلى واقعنا المحيط بنا ، وعندما يضيء كل واحد منا شمعةً في زاويته سينتشر النور ، وتنكّشف الطريق ، وتزول الغمة.
أضاف صديقي سائلاً وباهتمام : أنت تقول لا تنظروا إلى فوق حتى لا تتعبوا لكن للأسف الأخبار تسقط علينا من فوق ، وهناك من يرِّوجها وليس بالإمكان الفصل بين ما يجري في الأطر القاعدية فمن يتحمل المسؤولية؟
أنت محقٌ في قدر كبير مما تقول ، ولكن للأسف فإنّ هناك جهات من خارج إطار الحركة يمتلكون آلية لفبركة الاشاعات ، وتزييف الحقائق ، وتضخيمها ثم تسويقها عبر الصحف والانترنت والفضائيات لإيجاد بلبلة في صفوف الحركة ،ولكن للأسف فإنّ كوادر من حركة فتح في الاطر الأدنى تروق لهم هذه الاشاعات ، ويبنون عليها معلومات ، ويربطونها بأحداث ماضية كي يثبتوا صحتها لدى القارئ علماً أنها مزيَّفة ، ومن واجب الكادر المسؤول أن يتريَّث ، ويسأل مسؤوله لتوخي الحقيقة ، وحماية الحركة واطرها من كل الجهات الحاقدة عليها.وللأسف فإنّ البعض عندما يُسأَل عن أوضاع الحركة يكون جوابه : أنها خربانة من فوق لتحت. واذا استفسرت عن نشاطه وعمله يقول لك : أنا محبط ، وهم لا يريدوننا أن نعمل.
أنا متفائل بأننا سنحقق قفزة إلى الإمام لأنَّ البناء يبدأ من القاعدة ، وهذا أمر بيدنا ، الاهم أن لا نلوك لحم بعضنا ، وان نوقف الثرثرة ، وأن نعود إلى الأطر لنقول ما نريد من أجل حماية حركة فتح ومسيرتها . وان نأخذ زمام المبادرة ،ونبادر لأنّ حركة فتح تعتمد على المبادرة.
أنا متفائل لأننا متمسكون بثوابتنا الوطنية، ولأن القيادة الفلسطينية برئاسة الرئيس ابو مازن تمكنت من عزل القيادة الاسرائيلية فهي وبإجماع دولي تتحمل مسؤولية إفشال عملية السلام لأنها تتمسك بالاستيطان المرفوض دولياً ، وتمكنت القيادة الفلسطينية من تعرية موقف الولايات المتحدة وعجزها أمام الضغوطات الصهيونية، والرئيس اليوم يقف في وسط الميدان ثابتاً على موقفه،وأمامه العديد من الخيارات ، يبقى أن نلتفَّ جميعاً حول قيادتنا التي لم تفرط ولن تفرِّط ، والتي تقول ما تريد على الطاولة لأنها واثقة من نفسها ، وواثقة من إرادة شعبنا.والمسيرة تبدأ مجدداً من رفض التشاؤم والتسلُّح بالتفاؤل مهما كانت الأسباب.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها