يوصف انزياح دور اليسار الفلسطيني، بأنه أزمة يعاني منها هذا التيار. ولعل معظم أسباب هذا الانزياح، موضوعي، وقليلها الذاتي كان بسبب هشاشة البنى التنظيمية أو الحزبية، وضعف التثقيف. ويكمن بين الموضوعي والذاتي، من أسباب تراجع دور اليسار في الحياة السياسية والنضالية الفلسطينية، عامل المنظمات غير الحكومية، التي تمولها الدول المانحة، وهو العامل الذي قايضت فيه العناصر اليسارية شيئاً بشيء: أن يدفع المانحون تياراً في المجتمع، الى تعزيز قيم هي مشتركات بين المنحى الاشتراكي والمنحى الليبرالي، كالتأكيد على أهمية التفاعل المجتمعي ودور المرأة وغير ذلك. في الوقت نفسه، أن يتحصل اليساريون على مقومات استئناف النشاط والتواصل مع المجتمع، وهو استئناف ذو أكلاف لا توفرها الأحزاب والفصائل اليسارية لمحدودية مواردها، ولعجزها المزمن، عن توفير مصادر تمويل ذاتية. غير أن انخراط كثيرين، من الكوادر اليسارية، في المنظمات غير الحكومية، يكاد يكون ابتلع جوهر اليسار الفلسطيني التقليدي، واستلب روحه، واجتذبه الى مناخ الترف، لأن الكثير من هكذا منظمات، تصرف على إداراتها، أضعاف ما تصرفه على الشؤون التي تدل عليها عناوينها. وفي هذا السياق، نشأت ظاهرة فساد شبكة المنظمات غير الحكومية، حتى باتت تستوجب الضبط بقوانين وتدابير حكومية!عامل الدين، يمثل السبب الموضوعي الأهم، في انزياح دور اليسار الفلسطيني، شأنه في ذلك شأن كل يسار في كل بلد، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. فقد بات للدين، موقعه المركزي القوي، في المسار العالمي، ولا تقاس بقوته، قوة تيار الحرية والليبرالية، لا سيما بعد أن شقت التيارات الدينية طريقها الثوري بمعنى جديد. وفي كل بلد وقع تحت حكم إقصائي، هناك مظلومية مديدة حلّت بالتيار الديني، الأمر الذي استحث التعاطف الشعبي مع المظلومين، إن لم يكن لأسباب إيمانية، يكون نكاية في المستبدين. وفي فلسطين، كان اليسار من حيث هو أحزاب وفصائل، لا يمتلك مقومات الانتشار وحيثما ظلت المعونات للمعوزين وتوفير الوظائف والمساعدات الاجتماعية، وسائل لكسب التأييد. وفي البلدان التي كان فيها اليسار مع التيارات المدنية الليبرالية، تتمتع ببعض المقومات، من خلال منظومة التواصل بين المجتمع والمهاجرين منه الى أوروبا، مثلما هو الحال في تونس والمغرب، وجد هذا اليسار لنفسه، فرصة للمشاركة والتعايش مع التيار الديني الغالب، وإن كان هذا التشارك ينحصر في فكرة التغيير، ثم تنم السياقات التالية، عن مفترقات طرق عديدة!وبحكم السبب الموضوعي، المتمثل في قوة التيار الديني في فلسطين، اختفى اليسار من حيث هو مفاهيم اجتماعية اقتصادية، وظل اليساريون ينشطون على مستويين، أحدهما ضيّق وفي إطار منظماتهم الحزبية، والثاني على صعيدي النشاطين، غير الحكومي والعمل العام. غير أن هؤلاء، من خلال أسلوب حياتهم ونشاطهم، لم يعبروا عن وجهة اشتراكية فكراً ونطقاً وسلوكاً. ويكاد لا يُسمع في الفضاء العام، قول اشتراكي في الخطاب المعلن، ولو بالحد الأدنى. بل العكس هو الصحيح، إذ وضعت قيد التداول، في مناسبات العزاء والتهنئة والتواصل مع الرأي العام، عبارات «إيمانية» لم تكن واردة في النصوص اليسارية خلال العهود السابقة!جمهور اليسار في فلسطين متفرق مثلما هي أحزابه وفصائله، التي يتبدى تناقضها أحياناً، حتى على مستوى الرؤية السياسية. لذا بات السبيل الوحيد، هو المبادرة الى مؤتمر عام يجمع فصائل اليسار وأحزابه، لوضع صياغة عملية لتوجه يساري وطني واحد، يركز على عنصر العدالة الاجتماعية والموقف الصارم من الاحتلال، ويضع الضوابط لعمل اليساريين، بحيث تنشأ القدوة الممتازة ذات المناقبية العالية والصدقية التي لا يرقى اليها الشك. إن اليسار تيار حداثي من شأنه أن يخفف من قوة اندفاع الناشئة الى اتجاهات عدميّة، وأن يفيد المناخ الوطني العام، بآراء وممارسات نقدية، تكون لصالح المجموع الوطني!