عن جريدة الحياة

ثمة عجز واضح في توصيف حالتنا الفلسطينية, فنحن لسنا متفقين حتى على فهم ما يحدث لنا, ولسنا قادرين على وقف التدهور, ونحن فوق ذلك كله متناقضون جدا في الارتكاز إلى قاعدة ما للإنقاذ, وخاصة في مواجهة هذا الزمن الخارق من التحولات الكبرى في المنطقة وفي العالم, حيث نرى هذه التحولات بأعيننا, ونلمسها بأيدينا, ونشعر بوطأة ومأساوية تأثيراتها السلبية علينا, ولكن حين يأتي وقت الاستجابة الفاعلة لكل هذه التحولات, فإن محصلة الإرادة الفلسطينية تكون هزيلة للغاية, وكأننا كائنات منفصلة عن الزمن أو خارج الواقع أو مصابون بشلل كامل, حيث لا تطاوعنا تركيبتنا الحالية على أي قدر من النهوض.

أكبر دليل ساطع على ما يحل بنا, وعجزنا عن الإفلات من واقعنا المأساوي هو ردة الفعل السلبية جدا والمهينة لنا جميعا على الصعيد الوطني, التي نراها الآن ضد محاولات الخروج من قبر الانقسام، لأن صيغة الانقسام المستمرة منذ خمس سنوات هي صيغة الموت الكامل على الصعيد الوطني والسياسي والاجتماعي والثقافي، وأتحدى إن كنا قادرين تحت سقف هذا الانقسام على النجاح في أي شيء ولو بالحد الأدنى, ولو حتى على صعيد التعامل مع القمامة التي تداهمنا في شوارعنا وأمام بيوتنا, ناهيكم عن النجاح في قضايا أكبر مثل التعليم الذي ينحدر بمستويات سريعة, والبطالة التي تشكل تمزقا لنسيجنا الاجتماعي الأساسي, أو القدرة على انتاج إطارات فاعلة من أي نوع في حياتنا الإدارية والتنظيمية أو التعامل مع غول الاستيطان, أو حتى حماية أنفسنا من التهم الموجهة إلينا صراحة على صعيد الأنفاق وما تضخه من بضائع ومواد لا تصلح للاستخدام الآدمي, أو بخصوص ظاهرة السيارات المسروقة على خلفيات جنائية كبرى التي تزحم شوارعنا, أو قوة السطوة على حياة الناس بشكل لا يجيزه أي قانون, حيث الناس هم أرخص شيء في تفاصيل حياتنا اليومية.

والظاهرة المفجعة: أننا جميعا من النخب السياسية وحتى تلاميذ المدارس, نعرف جميعا أن حالة التدهور السريع لحياتنا الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية تحت سقف الانقسام, هي بالضبط النموذج المثالي الذي أراده الاحتلال الإسرائيلي وخطط له منذ عقود, واعتبره استراتيجية عليا في تدمير نسيج شعبنا وقضيتنا وافقادنا حتى صورتنا الحقيقية كشعب مناضل صعب أعظم القضايا العادلة.

ورغم ذلك نرى ردة الفعل الهستيرية والمهينة والهابطة ضد حالة الوعي المتقدم, وحالة التوافق الوطني, التي يقودها الرئيس أبو مازن والأخ خالد مشعل للخروج من هذا القبر الذي اسمه الانقسام.

إنها ردة فعل مهينة لنا وطنيا, لأن السؤال يدوي من قبل الجميع:

لماذا هؤلاء يتشبثون بالانقسام إلى هذا الحد؟ لماذا كل هذه الخلافات التي تنفجر في وجه المصالحة التي تؤسس لحرب أهلية دموية؟ لماذا والحكومة الوطنية الواحدة التي توصلنا إلى مخارج عبقرية لتشكيلها, لتكون قاطرة تنقلنا إلى وضع جديد خارج سقف الانقسام والمهين والمدمر, سرعان ما نتناوشها بخناجر الغدر, من خلال افتراءات دستورية وقانونية لا أساس لها، ومن خلال مطالب تعجيزية شرهة ولا تنتهي، ومن خلال افتعال خلافات لا يسيطر عليها أي إطار شرعي، والتأسيس لانشقاقات دموية, وأخذ الشعب رهينة للأوهام حتى الموت كنت أعلن استهانتي بمسلسل التهديدات التي يطلقها نتنياهو ضد محطات التوافق الوطني والمصالحة منذ الرابع من مايو الماضي وحتى اتفاق الدوحة الأخير, وكنت أعتقد أن هذه التهديدات لا قيمة لها, بل هي تؤكد صوابية ومشروعية اندفاعنا باتجاه المصالحة, إلى أن رأيت ردة الفعل الشرسة ضد اتفاق الدوحة, فتأكدت أن نتنياهو يهدد فعلا ليس بما سيفعله هو بيديه فقط, وإنما بما يفعله الفلسطينيون بأيديهم لذبح مشروعهم الوطني من الوريد إلى الوريد.

هل الحركة الوطنية الفلسطينية بكل فصائلها الوطنية والإسلامية أصبحت خارج الزمن? وأصبحت عبئا على نفسها وشعبها، وأصبحت عائقا أمام الحد الأدنى من تماسك ووحدة وانسجام شعبها حول مصيره الوطني؟

بعض الناس يقولون ذلك, وأكثر منه , ونتهمهم أحيانا بالجنون, ولكن يثبت بالدليل القطعي وبالمشاهد المأساوية التي نراها بأعيننا, أنه ليس كل ما يقال نوعا من الجنون.

إن اتفاق الدوحة الذي وقعه الرئيس أبو مازن مع خالد مشعل, لم يأت من الفراغ, ولا هو نبت شيطاني, ولا هو مثل نباتات الرعد, إنه نتاج طبيعي لقراءة شجاعة وصادقة وأمينة مع النفس للواقع من حولنا, وأول ملامح هذا الواقع وحقائقه الصادمة, أن الاستيطان والتهويد يزحف ويجتاح كل شيء, القدس, الأغوار, ولا يترك لنا سوى معازل صغيرة يمكن أن تورد العمال بأجر رخيص في المستقبل، وحقائق هذا الواقع تقول إن قطاع غزة لا يستطيع أن يعيش منفردا بذاته, إنه مشكلة متفاقمة بحد ذاته, وكل مسألة صغير يمكن أن يحلها أصغر مجلس قروي في العالم تتحول في قطاع غزة إلى معضلة مستعصية على الحل, وأننا في كل يوم نسجل فشلا ذريعا في التعامل مع مشاكل قطاع غزة المتفاقمة في حد ذاتها, التي جعلت الاحتلال الإسرائيلي يتركه لكي يواجهه وحيدا, وأن قطاع غزة دون تأكيد وحدته مع بقية أرض الدولة المفترضة ودون وحدته في نفس المسار مع شعبه, فإنه ذاهب حتما إلى المأساة, ذاهب إلى الصحراء بأبشع الشروط, ذاهب إلى الخروج النهائي من السياق الفلسطيني.

ومحطات التوافق الوطني التي بدأت في الرابع من مايو أيار العام الماضي وصولا إلى اتفاق الدوحة, هدفها الرئيسي تكريس الوعي الوطني والإرادة الوطنية بالحقائق الأساسية, وسيد هذه الحقائق أن الانقسام هو المقبرة النهائية، ولا بد من مغادرة هذا الانقسام مهما كلف الأمر, حتى يبقى لنا مشروع وطني نناضل من أجله ونصل إليه.

فماذا نرى؟ وما هي الصورة التي نصدرها عن أنفسنا؟

وما هو العذر الذي نختبئ وراءه؟ ونحن نقوم بردات الفعل الهابطة والمجنونة ضد التوافق الوطني وضد المصالحة وكأننا نرسل إلى الجميع رسالة تقول إن المشروع الوطني ليس على قائمة أولويات الذين يقومون بردة الفعل هذه, وان ثقافة الانقلاب الدموية, وثقافة الانقسام العدمية, هي المسيطرة على عقول هؤلاء الأفراد والجماعات والتيارات التي تقف حجر عثرة في طريق المصالحة.