بقلم: هاني المصري- وكالة معا

على مدى يومين كاملين، عقد المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدّراسات الإستراتيجيّة مؤتمرَه السّنويّ الأوّل تحت عنوان: القضيّةُ الفلسطينيّةُ.. مراجعةُ التّجربةِ وآفاقُ تغييرِ المسارِ الإستراتيجيّ، بمشاركة عشرات الشخصيات السّياسيّة والأكاديميّة والمجتمعيّة والشّبابيّة، وممثلين عن الشتات وفلسطينيّ 1948.
لقد كان المؤتمرُ مناسبةً هامّة لإدارة حوار إستراتيجيّ من خلال تقديم أربعَ عشرةَ ورقةً أنجِزَتْ قبل المؤتمر، ووزعت بشكل مسبق على المدعوين حتى يبدأ المؤتمر أعماله من نقطة متقدمة، حتى لا يعيد المؤتمر إنتاج الحوارات السّابقة التي شهدتها مؤتمرات وندوات سابقة، وإنما يسير خطوة ملموسة إلى الأمام، ليس في مجال تشخيص الواقع الفلسطيني فقط، الذي بذلت جهودٌ كبيرةٌ لتشخيصه، وإنما من أجل التقدم على طريق وضع العلاج والإجراءات والسياسات العمليّة الكفيلة بشق طريقٍ قادرٍ على مواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه القضيّة الفلسطينيّة.
تناول المؤتمر الخيارات والبدائل التي تواجه الشعب الفلسطيني حيث تم التركيز على أن هناك مجموعة من الخيارات المفضّلة بالنسبة إلى إسرائيل التي تبدأ باستمرار الوضع الراهن، وتمر بخيار الدولة المؤقتة والخيار الأردني والوطن البديل، ولا تنتهي بخيار "إسرائيل الكاملة".
وإذا كان الفلسطينيون في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى لصالح إسرائيل، والدعم الأميركي المطلق لها، والعجز العربي والدَّوْليّ، والانقسام الفلسطيني؛ لا يستطيعون فرض حلِّهم أو خياراتهم المفضّلة على إسرائيل، فإن من واجبهم، وهم يستطيعون، إحباط الخيارات الإسرائيليّة، وهذا يمكن تحقيقه بما يفتح الطريق أمام تحقيق الحل الوطني الفلسطينيّ في المستقبل المتوسط أو البعيد.
أما الخيارات والبدائل المفضّلة بالنسبة إلى الفلسطينيين، فتبدأ بخيار الدولة الفلسطينية، وتمر بخيار الدولة الواحدة بأشكالها المختلفة (دولة لكل مواطنيها، أو ثنائية القومية)، ولا تنتهي بالعودة إلى خيار التحرير الكامل وإقامة الدولة الديمقراطيّة.
وهنا، تم التأكيد في المؤتمر على أنّ الخيارات المفضّلة لا يجب أن توضع في مواجهة بعضها البعض، أي عدم وضع خيار الدولة الفلسطينية في مواجهة خيار الدولة الواحدة، لأنّ تحقيق الدولة الفلسطينيّة يفتح الطريق للدولة الواحدة، وفشله يقطع الطريق عليه ولا يعبّدها له.
كما أنّ خيار الدولة الفلسطينية تراجع بالرغم من قبوله دَوْليًّا، وتضمينه في قرارات الأمم المتحدة إلا أنه معرض للأفول التام بعد مضي إسرائيل في تطبيق مشاريعها التوسعيّة والاستيطانيّة والعدوانيّة والعنصريّة، خصوصًا في مدينة القدس. كما أنّ خيار الدولة الفلسطينية يتحول إلى حل دولتين لشعبين، هذا الحل الذي يُسَوِّغُ تمرير المشروع الصهيوني الذي يعتبر إسرائيل دولة يهوديّة أو دولة للشعب اليهودي، وهذا أمرٌ في منتهى الخطورة لأنه يُسقِط حقَ اللاجئين في العودة، ويفتح الطريق لتهجير فلسطيني 1948 وتعميق حالة الاضطهاد والتمييز العنصريّ الممارسة ضدهم.
إن الانشغالَ الأكاديميَّ في البحث عن الخيارات يتجنب فخ وضعها جنبًا إلى جنب على قدم المساواة، أو التعامل معها كأنها مسألة نظرية وليست مسألة تتعلق بالإرادة. فإذا أراد الشعب الفلسطينيّ حريته يجب عليه أن يعمل من أجلها ولا بد أنْ يستجيب القدر.
فالمسألة التي يواجهها الشعب الفلسطينيّ ليست الاختيار بين الدولة الفلسطينية والدولة الواحدة، وإنما بين استمرار الأمر الواقع الاحتلاليّ في ظل وهم وجود "عملية سلام"، وإمكانية التوصل إلى حل وطني، أو تحويله إلى دولة ذات حدود مؤقتة لا تملك من مقومات الدول شيئًا يجعلها خطرًا متزايدًا حالة التيه الفلسطينيّ التي تظهر بغياب الأفق الإستراتيجي أمام القيادة الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها، وفي الانقسام الذي خلّف سلطتين متنازعتين في غزة والضفة الغربية، بحيث يتم الآن كما نلاحظ الاعتراف بفشل إستراتيجيّة المفاوضات كأسلوب وحيد، وإستراتيجيّة المقاومة المُسلَّحة كأسلوب وحيد، دون تبني إستراتيجيّة جديدة بديلة متكاملة، ما يهدد بالانتهاء إلى التعايش مع الأمر الواقع تحت الاحتلال والخيارات التي تفرضها إسرائيل، مرورًا إلى التعامل معه، وانتهاءً إلى قبوله.
إن العودة إلى المفاوضات، التي سميت هذه المرّة "استكشافيّة"، وتخللها تقديم وجهة النظر الفلسطينيّة حول الأمن والحدود، وهي نفس وجهة النظر التي قدمت سابقًا التي تتضمن الموافقة على مبدأ تبادل الأراضي؛ تدل على تمسك القيادة بنهج التسوية وما يسمى "عملية السلام، وذلك بالرغم من الحديث المتكرر عن شق الطريق لخياراتٍ وبدائلَ أخرى، ومن الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس "أبو مازن" في الأمم المتحدة الذي يمكن البناء عليه لبلورة إستراتيجية فلسطينية جديدة بعيدًا عن استخدام التهديد بالخيارات، بما يشمل الأمم المتحدة والمصالحة والمقاومة الشعبيّة، كتكتيك للضغط لاستئناف المفاوضات وتحسين شروطها، وليس من أجل اعتماد خيار بديل عنها.
وطُرِحت في المؤتمر فكرة في منتهى الأهمية عن ضرورة أن تكون الأولوية لإنهاء الاحتلال، وليس لشعار الدولة الفلسطينية الذي استبدَل تحرير فلسطين وإقامة الدولة الديمقراطية، ووصل إلى التركيز على الدولة وإهمال مسألة إنهاء الاحتلال، وانتهى إلى اعتبار بناء المؤسسات وإثبات الجدارة وتطبيق الالتزامات الفلسطينية، خصوصًا الأمنيّة، ولو من جانب واحد، هو الطريق لإقامة الدولة.
إنهاء الاحتلال شعارٌ يستقطِب تأييد الجميع، ولا يفتح الطريق إلى فصل أو مقايضة بين الحقوق الأخرى، مثل حق العودة، وحق شعبنا في أراضي 1948 في المساواة والحصول على حقوقه الفردية والقومية.
وتناول المؤتمر مسألة إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وعُرِضت فيه ورقة تضمّنت مشروعًا لكتابة ميثاق وطنيّ جديد. لقد أثار هذا الموضوع اهتمام الحضور، وتنوّعت الآراء حول كيفية إصلاح منظمة التحرير. وهل يكفي إصلاحها، أم أنّ المطلوب إعادة تشكيلها، بحيث تستوعب مختلف ألوان الطيف الفلسطينيّ، من خلال إجراء انتخابات للمجلس الوطني، تعيد الحياة للمنظمة كمؤسسة تمثيليّة جامعة حتى تعود قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطينيّ.
وتباينت الآراء حول أهمية وضرورة وضع ميثاق وطني جديد، وما يجب أن يشمله. هل يكفي الميثاق القديم، أم أن هناك ضرورة للاتفاق على ميثاق جديد، يتضمن ما يمكن تسميته "ركائز المصلحة الوطنية العليا" التي تحدد ما يُجْمع عليه الفلسطينيون جميعًا بغض النظر عن أحزابهم وبرامجهم وأماكن تواجدهم. فـ"ركائز المصلحة الوطنية العليا" تستند أساسًا إلى الحقوق الطبيعية والتاريخية، ولا تشمل برنامجًا سياسيًا، فإن البرامج السياسية متغيرة؛ كونها تتعامل مع الواقع والحقائق التي تفرضها موازين القوى، أما ما يُجَمِّعُ الشعب الفلسطيني فجذوره عميقة في التاريخ تظهر في الجغرافيا والسياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد، أي تمتد إلى الحاضر والمستقبل. وإذا كانت البرامج السياسية تتغير بتغير الموازين والمصالح، فإنّ "ركائز المصلحة الوطنية العليا" ثابتة، وهي محل إجماع وفوق مصالح الأحزاب والجماعات والأفراد.
لا أعتقد أن مقالًا واحدًا يمكن أن يفي هذا المؤتمر حقه بما اشتمله من أوراق ومناقشات غنيّة ومتنوعة ومتعددة، حيث اشتمل المؤتمر على الأوراق الآتية: هاني المصري "القضية الفلسطينيّة.. قراءة في الخيارات والبدائل الإستراتيجيّة"، والدكتور عزمي الشعيبي "منظمة التحرير: البرنامج الوطني.. آليات تنفيذه"، والدكتور إبراهيم أبراش "البرنامج الوطني الفلسطيني من مصالحة إدارة الانقسام إلى المراجعة الإستراتيجية، والدكتور سميح حمّودة "النظام السياسيّ والبرنامج الوطنيّ وموقع التيّارات الإسلامية الفلسطينية"، والدكتور نبيل قسيس "قراءة أولية مختصرة في التغيرات طويلة الأمد في المواقف الدولية إزاء القضية الفلسطينية"، وداود تلحمي "الاستقلالية الفلسطينيّة: الضرورة والمحددات".
كما قدّم أنطوان شلحت ورقة بعنوان: "أين وصـل "المشروع الصهيوني"؟، والدكتور بشير بشير "نحو مساهمة أوليّة في تجديد الفكر السياسي حول المسألة الفلسطينيّة"، وفيصل حوراني ورقة "إِصلاحُ منظَّمَةِ التَّحريرِ الفلسطينيَّة"، وخليل شاهين "واقع المنظّمة والسلطة.. السيناريوهات والتغييرات المطلوبة"، والدكتور نصر عبد الكريم "السيناريوهات الاقتصاديّة المتوقعة والخيارات المتاحة"، وشعوان جبارين "الإستراتيجية القانونية الفلسطينية: الاحتياج والأهمية"، وسلمان ناطور "قراءة في واقع ومستقبل المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ"، وأخيرًا ورقة الدكتورة غانية ملحيس "عناصر الرؤية الإستراتيجيّة لتغيير المسار". وستُطبع هذه الأوراق والمناقشات التي دارت حولها في كتاب سيصدره المركز قريبًا.