في الحقيقة ترددت كثيراً قبل نشر هذه المقالة، فبعد استقالتي من الحكومة كوزير للاقتصاد قبل أكثر من سنتين، آثرت ان أنأى بنفسي عن العمل العام كي أركز على عملي وعائلتي، ولكنني أجد نفسي اليوم مضطراً للتعليق على ما يحدث لأنني حقاً قلق مما ستجلبه علينا السياسات الضرائبية والاقتصادية والمالية الحالية المطبقة من قبل حكومة كنت في الماضي جزاً منها.
في البداية أود الإيضاح بأنني على الصعيد الشخصي فرح من زيادة ضريبة الدخل. كحامل لهوية القدس أدفع سنوياً لضريبة الدخل الإسرائيلية الفرق بين ضريبة الدخل الإسرائيلية وال15% التي كانت تدفع في فلسطين، الآن سأدفع لبلدي مبالغ اكبر.
إن أكثر ما يقلقني هو خلط الاوراق وعدم وضع الأمور في نصابها الصحيح. لذا قررت الخروج عن ما اعتدت عمله خلال السنين الماضية وهو الكتابة وعدم النشر. ما أصبو اليه اليوم هو المساهمة بما أكتبه في دفع الحوار البناء في فلسطين. أطرح للنقاش مجموعة من التساؤلات وأيضاً بعض الإستنتاجات التي أومن بأنها صحيحة والتي تعبر عما يجول في خاطري وخاطر العديد من الأصدقاء، لعل وعسى ان يخالفني البعض ويعمل على تفنيد ما أطرح، وبالتالي نكون قد نجحنا بالمساهمة في خلق بيئة للحوار تشعر كافة أبناء الوطن بأنهم حقاً "شركاء في هذا الوطن" ويتمتعون به بالعدالة والمساواة. آمل أن يتذكر أعضاء هذه الحكومة وخصوصاً د. سلام فيّاض أن "صديقك من صدقك وليس من صدّقك".
في خضم الأحداث المتسارعة دولياً وعربياً ومحلياً وخصوصاً الإجراءات الإسرائيلية اليومية لتهويد القدس وتكثيف بناء المستعمرات على الأرض الفلسطينية في مسعى لقضم البقية الباقية لنا، وانهاء قضيتنا الوطنية وتزامناً مع العمل الفلسطيني المضاد في المحافل الدولية كالأمم المتحدة واليونسكو من أجل نزع الإعتراف العالمي بفلسطين كدولة، وما صاحب هذا المسعى من التفاف منقطع النظير حول القيادة الفلسطينية من قبل كافة أبناء الشعب الفلسطيني على مختلف شرائحهم وانتمائاتهم السياسية و"الطبقية". تعصف بالشارع الفلسطيني أحداث من نوع آخر تذكر ببدايات "الربيع العربي" في كانون ثاني من العام المنصرم وكأن "الربيع" في عالمنا العربي يأتي دوماً متقدماً في الشتاء. الشارع الفلسطيني مشغول اليوم بالراوتب والتقاعد المبكر والضرائب والرسوم وغيرها. حتماً بدون قصد، تبعد السياسات الجديدة الجمهور عن التحدي الأساسي الذي يواجهنا كشعب والمتمثل بالإحتلال وما يصاحبه من إستعمار للأرض وللإنسان.
إن المتتبع للأحاديث الصحفية والتصريحات الحكومية وبعض التعليقات من بعض الأقلام يتصور وكأن المشكلة هي "صراع طبقي" بحت يتمثل بأن فئة قليلة من الناس تتمثل بأصحاب رؤوس الأموال لا تريد أن تدفع من دخلها ضرائب. لقد علق على هذه الضرائب "الإعلاميون" و"الخبراء" ونشر أحد الإعلاميين في "معاً" واصفاً ما يحدث "بثورة الأغنياء" الذين "يسخّرون الموظفين والفقراء" كي يخوضوا هذه الحرب عوضاً عنهم، مع أن هذه الإجراءات حسب قوله لا "تستهدف" الفقراء. إن ما أقرأه يذكرني بقصة "روبن هود" وفيلم "زورو"، هاتان الشخصيتان اللتان احببتهما في صغري، وكنت من المتضامنين معهم لأنهم "سرقوا الأغنياء لإطعام الفقراء". لكن الواقع الفلسطيني ومع الأسف ليس كذلك وعلينا وبكل مسؤؤلية أن ننتقل من العيش في الخيال الى الواقع.
تتحدث هذه المقالة عن ان هناك خطة قد وضعت من قبل الحكومة وان على "الخبراء" أن يردوا على أسئلة الحكومة "وان يعرضوا خططاً منافسة"، وإذ لم يملكوا "خطة بديلة فمن الأجدر أن يصمتوا ويكفوا عن تثوير العوام وتأليب الشارع دون أي سبب مقنع". سؤالي هو: عن اي خطة نتحدث؟ كان من المفترض ان تقدم الحكومة موازنة تقديرية عن اوجه الجباية والعجز وكيف ستنجح الاجراءات الجديدة بسداد العجز الاضافي المتوقع والمتمثل ب 350 مليون دولار، أي أن نعرف أثر كل اجراء وكم ستضيف كل زيادة في الضرائب. وأن يفتح الموضوع للنقاش كي يقتنع المواطن بعدالة ونجاعة هذه الإجراءات، انا لم أرى أية خطط تفصيلية ولم أسمع عن أي حوارات حول الموضوع تضم الحكومة والشعب.
قد أكون مخطئاً لذا أطلب من من لديه "الخطة" ان يطلعنا عليها. أود التأكيد على أن غالبية الشعب الفلسطيني وكما أثبتت أحداث العام المنصرم مستعدة للألتفاف حول قيادتها لمواجهة الأزمات التي تعصف بشعبنا. إذا كانت الزيادة في الضرائب ستحل الأزمة بشكل نهائي فأنا على قناعة بأن الغالب الأعم من قطاع الأعمال مستعد للتضحية.
ولكن الحديث عن الأغنياء والفقراء بهذا الشكل خطير للغاية، خصوصاً وان فلسطين ما زالت ترزح تحت إحتلال بغيض وتحتاج الى كافة أبنائها كي يتكاتفوا في النضال من أجل السيادة والإستقلال الوطني، علينا تجنب ما قد يقسّم البلاد فنحن كلّنا شركاء في هذا الوطن. لذا من البديهي تأجيل "الصراع الطبقي".إضافةً أوكد: كما ان "الفقر مش عيب" كذلك من اغتنى بالحلال ليس عيباً. أود تذكير الجميع بأن بلاد الدنيا مفتوحة وعلى مصراعيها أمام المستثمرين، أتحدث عن نفسي وأعتقد بأني أمثل الكثيرين: لقد إستثمرنا ونستثمر في بلادنا حباً ووفاءً لهذا البلد. أن تطفيش الإستثمار والمستثمرين من فلسطين ستكون له عواقب وخيمة.
لقد قامت الحكومة الفلسطينية بإتخاذ العديد من الإجراءات والقرارات في مطلع هذا الشهر، أقل ما يقال عنها بأنها "غير مدروسة العواقب". فعلى سبيل المثال أقرت الحكومة قانوناً لضريبة الدخل به تعديلات كبيرة أخطرها حسب ما ورد بالرأي القانوني من ذوي الخبرة: الفقرة 16، مادة 5، والتي أعطت وزير المالية ورئيس الوزراء صلاحيات تتعارض مع القانون الأساسي والذي هو بمثابة "دستور" لفلسطين. ان ما يحدث هو إستئثار بالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في آن واحد. مع أن مجلسنا التشريعي قد إنتهت ولايته ولكني أعتقد أن من الأجدى قبل إقرار مثل هذه السياسات والإجراءات المصيرية أن تتم إستشارة ومناقشة أعضاء لجنته الإقتصادية.
أعرف أن "الغرقان يتعلق بقشة" على قول المثل الشعبي الفلسطيني ولكن لا يجوز ولا بأي حال من الأحوال تجاوز الخطوط الحمر بإقرار تعليمات وإجراءات غير دستورية وتخالف الأعراف الدولية. أقولها بوضوح: هذه ليست فلسطين التي حلمنا بها، إذ ناضل الفلسطيني لأجيال من أجل إقامة كيان وطني وسلطة فلسطينية تكون ديمقراطية وتعددية وتحترم الأعراف الدولية في الحكم، لذا نأمل، بل نرجو، صنّاع القرار في فلسطين تصويب هذا الإنحراف الخطير.
تشير الاحصاءات الرسمية لوزارة المالية بأن مجموع الايرادات لعام 2010 بلغ 1,829 مليون دولار، وفي تصريح للمحاسب العام في وزارة المالية الأخ يوسف الزمر ل وكالة"معاً" الاخبارية حول أرقام عام 2011، أفاد بان حجم الانفاق الحكومي بلغ 3,700 مليون دولار، وان حجم المساعدات الخارجية هو 742 مليون دولار والعجز بلغ 300 مليون، مما يعني أن مجموع الايرادات هو حوالي 2,658 مليون دولار. اذا كانت الأرقام الواردة في هذا التقريرصحيحة تكون الزيادة في الايرادات عام 2011، 829 مليون دولار او 45% عن تلك المحصلة عام 2010، مما يعني أن السلطة قد نجحت في زيادة الايرادات بدون تغييرات في قوانين الجباية. فلماذا يا ترى هذه الإجراءات الجديدة خصوصاً وان المطلوب تحصيله زيادة حسب تصريحات د. سلام فيّاض هو 350 مليون دولار، أي أن ترتفع الجباية عام 2012 بنسبة 13% فقط؟!.
من اكثر الاحصائيات التي إسترعت اهتمامي كم يتم تحصيله من المواطن الفلسطيني كنسبة من دخل الفرد. في فلسطين هذا الرقم حسب الاحصائيات الرسمية وذلك قبل رفع الرسوم والضرائب هو: 41.50% ، بينما هو في المانيا 39.3% وفي الأردن 21.1 % وفي اسرائيل 36.8 % وفي كندا 31.1% . إذا كنا من أكثر الدول في العالم في دفع الضرائب كنسبة من دخل الفرد، فهل من العدالة زيادة هذا العبىء على كاهل المواطن؟ خصوصاً وإن هذا يحدث دون أي ربط بمستوى الخدمات المقدمة للمواطن كالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها.
قبل الشروع في علاج مريض، على الاطباء الاجابة على سؤال ما إذا كان جسمه قادر على تحمل الاعراض الجانبية للعلاج، إذ كثيراً ما تكون هذه الاعراض الجانبية قوية لدرجة تقتل المريض، وفي هذه الحالة يقرر الاطباء عدم اعطاء العلاج.
هذا التشبيه ينطبق على الواقع المالي / الضرائبي. أن فرض ضرائب على ارباح الودائع البنكية في فلسطين سيحقق للسلطة كضريبة دخل حسب التقديرات حوالي مليون دينار سنوياً، ولكنه حتماً سيهرب مليارات من البنوك الى الخارج. الأردن على سبيل المثال لا تفرض ضرائب على أرباح الودائع المصرفية. لذا فإن كون أكثر من 50% من ودائع فلسطين هي في بنوك أردنية سيعنى أن هذه التحويلات الى خارج فلسطين لن تتعدى كونها تحويلات من فرع الى آخر في نفس البنك.
أنا متأكد من اننا اذا ما نظرنا الى الامور بهذا الشكل ستقتنع الحكومة بعدم جدوى العديد من الاجراءات المقترحة، وكمثال آخر على ما أقول: قدم أحد الخبراء في الأسهم تقديراً يفيد باننا لو افترضنا أن السوق المالي في فلسطين سيرتفع بنسبة 20% وهو امر شبه مستحيل في ظل الاوضاع السائدة، فان السلطة ستحصل 6 مليون دولار من الضريبه على ارباح الأسهم. ولكن فرض هذه الضريبه سيهرب من فلسطين حوالي 400 مليون دولار إستثمارات فهل من المعقول يا ترى أن لا تحسب الأمور بالشكل الصحيح؟.
إستمعت مؤخراً الى مداخلة قدمها مندوب إتحاد شركات التأمين مفادها أن شركات التامين في فلسطين لا تستطيع تحمل أية أعباء ضريبية جديدة وان العديد منها سيفلس إذا ما استمرت الحكومة في سياساتها الضريبية الجديدة. قد يقول البعض بأن هذه مبالغة ولكن علينا عدم النسيان بأنه وخلال السنتيين الماضيتين إغلقت شركة تأمين وأخرى على شفى الإغلاق، علماً بأن عدد شركات التأمين العاملة في فلسطين خمسة. وتشير المعلومات بأن كثيرا من الشركات في قطاعات مختلفة هي أيضاً على شفى الإفلاس.
في العادة تتخذ الحكومات إما سياسة مالية تقشفية أو سياسة مالية توسعية، يا حبذا لو عرفنا أي من السياسات سنتبع. من هنا تبرز أهمية وجود خطة متكاملة تبين أوجه الصرف وأوجه التحصيل / الجباية من كل ضريبة مفروضة على أن تقدم للنقاش لأبناء شعبنا من قبل الحكومة ؟؟ أود أن أعيد التأكيد على أن الغالبية العظمى من أبناء شعبنا ستقبل أن تتكاتف مع سلطتها وحكومتها في شد الأحزمة على البطون شريطة ترشيد كافة النفقات، فهل يعقل أن يطلب من المواطن دفع ضرائب زيادة دون ترشيد الإنفاق العام وخصوصاً البدلات والمكافئات والمصاريف الأخرى؟ فأين العدالة في ذلك؟.
باعتقادي هذه ليست الطريق للخروج من الأزمة الحالية. إن الوضع في فلسطين اليوم هو نتاج لتشوهات كبيرة حدثت في الإقتصاد الفلسطيني على مدى عقود، السبب ربط فلسطين مع الإقتصاد الإسرائيلي وبسبب الأتفاقيات التجارية وخاصة بروتوكول باريس. إن إسرائيل هي المستفيد الوحيد من هذا الواقع، إذ نجحت في تجيير هذه البروتوكولات لمصلحتها بالكامل دون أن تقدم المطلوب منها بموجب هذه الإتفاقيات، خلال السنوات العشر الماضية ساعدت المساعدات الدولية في التقليل من الآثار المدمرة على الإقتصاد الوطني من الإجراءات الإسرائيلية التعسفية والأحادية الجانب. الأزمة الاقتصادية العالمية غيرت من أسس اللعبة، فاليوم العالم الذي مّول الإحتلال خلال العقود الماضية "يرفع يده" وكأنه يقول "مش شغلي" فهل يُعقل أن تجيّر هذه "الفاتورة" للمواطن الفلسطيني؟.
لإظهار مدى التشوهات الحاصلة على الإقتصاد الفلسطيني يكفي النظر الى القاعدة الإنتاجية في فلسطين التي تشهد ذوباناً: قبل 5 سنوات شكلت الصناعة والزراعة حوالي 32% من الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين اليوم تشكل أقل من 19%. يُجمع الخبراء بأن وجود قاعدة انتاجية صلبة هي الأساس المتين الوحيد الذي يضمن نجاعة وإستمرارية ومنافسة أي إقتصاد. السؤال المطروح ماذا عملنا من أجل إعادة إطلاق هذه القاعدة الإنتاجية؟ للأسف القليل القليل.
إن ربط إقتصادنا بالإقتصاد الإسرائيلي يؤدي الى تدمير القيمة الشرائية لدينا فبينما أسعارنا هي أسعار إسرائيل رواتبنا أقل من ثلث الرواتب في إسرائيل، إن إعادة توجيه إقتصادنا عن طريق الفك التدريجي للإرتباط بالإقتصاد الإسرائيلي وإعادة توجيه تجارتنا الخارجية بإتجاه عمقنا العربي والإسلامي هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، قد يقول البعض بأننا لا نستطيع ذلك بسبب الأتفاقيات ولكني أقول بأن هذا غير دقيق، فلنناقش هذا الموضوع بموضوعيه وانا على قناعه من أمكانية تغيرهذا الواقع.
في الختام أشيرالى أن التعليمات والقوانين والإجراءات الجديدة لا تمس فقط الإغنياء حسب الإدعاء القائم، فالغلاء يطال الفقير قبل الغني. أود أن أوكد بأن أي زيادة في الكلفة على التاجر أو المُصّنع كتلك التي ستأتي في زيادة الجباية الحكومية ستجّير بشكل أوتوماتيكي على المستهلك على شكل رفع الأسعار.
في المدرسة الابتدائية تعلمنا قصة البخيل الذي قلل في كل يوم كمية الأكل التي يطعمها لحماره حتى مات الحمار من الجوع، فكان رد فعله: "يا خسارة بعد ان تعوّد على قلة الأكل مات". أخشى ان يأتي يوم قريب يتفاقم به النزيف الضرائبي في فلسطين حتى يقول جابي الضرائب: "يا خسارة بعد ان تعوّد على كثرة الدفع مات".
"أن تطفيش الإستثمار والمستثمرين من فلسطين ستكون له عواقب وخيمة"
"لقد قامت الحكومة الفلسطينية بإتخاذ العديد من الإجراءات والقرارات في مطلع هذا الشهر، أقل ما يقال عنها بأنها "غير مدروسة العواقب"
"أن فرض ضرائب ارباح الودائع البنكية في فلسطين سيحقق للسلطة كضريبة دخل حسب التقديرات حوالي مليون دينار سنوياً، ولكنه حتماً سيهرب مليارات من البنوك الى الخارج"
"العالم الذي مّول الإحتلال خلال العقود الماضية "يرفع يده" وكأنه يقول "مش شغلي" فهل يُعقل أن تجيّر هذه "الفاتورة" للمواطن الفلسطيني"؟
*باسم خوري- وزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني الأسبق
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها