لم تكن العودة للقاء المفاوض الإسرائيلي الأمر الأكثر شعبية لدى أبناء شعبنا رغم قناعة القيادة الأردنية التي رعت لقاءات عمان بأن اختراقا ما سيحدث، ورغم رغبة الإدارة الأميركية بإحداث ثغرة ما في جدار الاستعصاء القائم في عملية السلام.
لكن حكومة الاحتلال، والتي تعودت صفع المبادرين بخطوات ميدانية عدائية، أقدمت كما درجت العادة وخلال لقاءات عمان، على الإعلان عن توسيع مستوطناتها السرطانية، ورفدت جملة اعتداءاتها باعتقال النائبين عزيز دويك وخالد طافش، من ثم توجيه مستشارها القضائي باتجاه مقاضاة سماحة المفتي محمد حسين، مفتي القدس، بتهمة معادة السامية وصولا إلى اقتحام مقر الصليب الأحمر في المدينة المقدسة واعتقال النائب محمد طوطح والوزير المقدسي السابق خالد أبو عرفة في اعتداء صارخ على مؤسسة دولية وخرق غير مسبوق لحقوق الإنسان.
وأيا كانت الأسباب والحجج التي ساقتها وتسوقها حكومة الاحتلال لتبرير خطواتها، فإن الرسالة الأوضح هي أن حكومة نتنياهو المتطرفة لن تسعى إلى فك انسداد العملية السلمية، بل ستحاول المناورة والمراوغة وإضاعة الوقت حتى تحول جغرافيا الدولة الفلسطينية الحلم إلى 'كانتونات' ممزقة تقتلها الجدر العنصرية ومستوطنات الشؤم، فيلقى ربما بفتات ما يبقى من جغرافيا الوطن عنوة للمملكة الأردنية لإدارته في سعي إسرائيلي لتجسيد رؤيتها بقتل الدولة عبر الالتهام والفرض.
ورغم التغليفة الذكية التي تحاول أوروبا تقديمها اليوم لإغراء الجانب الفلسطيني وإقناعه بأن يبقي على لقائه بالإسرائيليين، فإن أبناء شعبنا في معظمهم قد فقدوا الأمل بالمفاوضات وربما لن يعجبهم أية توليفة للعودة للقاء الإسرائيليين تحت أي من المسميات، وعليه فإن الانسداد يبدو سيد الموقف.
ومع هذا الوضع المستفحل، ستقف القيادة الفلسطينية لتقول للعالم بأنها قد حاولت جهدها إنجاح السلام وإحلاله في المنطقة، فخاضت عملية السلام تحت كل الظروف والمسميات وتحملت المناورات والمراوغات، وقبلت المبادرات والمحاولات ووضعت مدنا وعواصم وأشخاصا على خارطة العالم السياسي، وتعايشت مع ما جاء في رسائل الضمانات الفارغة المحتوى والقيمة، بل أنها قبلت ما لم يكن محببا لدى شعبنا أحيانا أملا في تحقيق اختراق ما، لكن حكومة المحتل لا تريد سوى الاحتلال، والاحتلال، والاحتلال.
وأمام هذا الانسداد القادم، لا يستغرب أحد أن يتصاعد الحديث عن فك الارتباط القسري مع إسرائيل، بل لا ضرر من تشكيل لجنة قانونية أكاديمية مختصة تبحث بتفاصيل هذا المنحى بحيث تدرس إمكانية فك الارتباط الاقتصادي، والسياسي، والجغرافي، والمائي، مع إسرائيل، وإلغاء بعض الاتفاقيات أو البرتوكولات الموقعة بصورة تدريجية إن لم يكن بشكلها الكامل وأهمها اتفاقية باريس، بل دراسة إمكانية الطلب من الأمم المتحدة وأعضائها المساعدة رسميا في تحقيق الانفكاك الكامل حتى لا يبقى العالم بأسره رهينة احتلال أصم وبائس.
ومع هذا الجهد، فإن المعركة الدبلوماسية في الأمم المتحدة يجب ألا تتوقف وصولا إلى عزل حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، وتدويل الصراع ليصبح العالم في مواجهة إسرائيل وليس الفلسطينيين وحدهم في مواجهة محتليهم.
إن موجة فك الارتباط مع الاحتلال والمفروض بعنف المحتل على الشعب الفلسطيني ربما يصبح الظاهرة الأعم والأكثر شعبية بعد وفاة العملية السلمية بكامل خلطاتها وسيناريوهاتها، بحيث يصبح الشعب أكثر توقا لمقاطعة البضائع الإسرائيلية وليس فقط بضائع المستوطنات، ورفض التعامل مع كل ما هو إسرائيلي ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، وتعظيم هذا الجهد بدور أكثر تشابكا مع المقاومة الشعبية، وأكثر ارتباطا بحملات التضامن الدولية، وأكثر التصاقا بالمصالحة الفلسطينية ... فهل وصلت الرسالة؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها