بقلم: ميساء بشارات
في عمق الضفة الفلسطينية المحتلة، على امتداد الطرق المؤدية إلى بلدتي بيت فوريك وبيت دجن شرق نابلس، تقف "بوابة الموت البطيء" كما يسميها الأهالي. تعيش البلدتان يوميات من الحصار الخانق، حيث يختصر حاجز عسكري واحد حكاية المعاناة المستمرة منذ ربع قرن.
وفي ظل تصاعد الهجمة الاستيطانية على محافظة نابلس، تحولت الحواجز إلى أدوات عقاب جماعي، وعنوان رئيسي لعزل المواطنين عن محيطهم الجغرافي والاجتماعي.
حاجز بيت فوريك، الذي يقف ككتلة صلبة منذ عام 2000، لم يعد مجرد نقطة تفتيش، بل بات معول هدم للأنشطة الاقتصادية، ومعرقلاً للحياة الطبيعية لما يزيد عن 25 ألف نسمة.
تشديدات إضافية فرضت نهاية عام 2023، زادت من قسوة المشهد، إذ أن بوابة حديدية واحدة تتحكم بمصير آلاف الطلبة، والعمال، والمرضى، والمزارعين، فيما تواصل قطعان المستوطنين اقتحاماتها المتكررة لقبر يوسف تحت حماية جيش الاحتلال، لتتحول معها حياة المواطنين إلى انتظار مرير على الحاجز، انتظار قد يكون ثمنه الحياة نفسها.
- خسائر باهظة
يروي صاحب مسلخ للدواجن في بيت فوريك، محمد كريم فرسان شاهين، حجم الكارثة التي يعيشها يوميًا نتيجة وجود الحاجز الاحتلالي الذي يحاصر بلدته.
يقول شاهين: "لدي سيارات مخصصة لنقل الدجاج الحي من المزارع، كل سيارة تحمل بين 3000 إلى 4000 طير، وبمجرد توقفها على الحاجز ثلاث أو أربع ساعات ما يؤدي إلى موت أكثر من 500 أو 600 طير في كل شاحنة".
ويوضح انه الأسبوع الماضي فقط، وخلال موجة الحر الشديدة، فقد شاهين 1500 طير، رغم اتخاذه جميع التدابير الوقائية الممكنة؛ من نقل الطيور في أماكن مهواة، إلى استخدام المراوح، ورش الماء، لتقليل معدل النفوق، لكن مهما كانت الاحتياطات، فإن ساعات الانتظار الطويلة تحت الشمس الحارقة تسببت بموت جماعي للطيور قبل أن تصل إلى المسلخ.
- ضربة مزدوجة.. العمال والطلبيات
لم تقتصر الأضرار على الثروة الحيوانية فقط. فقد أشار شاهين إلى أن عماله، الذين يدخلون من خارج البلدة للعمل في المنطقة الصناعية، يقضون ساعات طويلة على الحاجز بانتظار السماح لهم بالمرور.
يقول شاهين بمرارة: "تأخير العمال معناه تأخير الإنتاج. وعندما يتأخرون، نضطر إلى إلغاء بعض الطلبيات التي حصلنا عليها، وفي النهاية نخسر زبائننا وثقتهم".
ويتابع: إن هذا التأخير تسبب بفقدان عقود كانت موقعة مع محلات الشاورما والمطاعم، التي اتجهت إلى مسالخ أخرى أكثر قدرة على الالتزام بالمواعيد، بسبب ما وصفه شاهين بأنه "الشلل المفروض قسرًا بفعل الحصار".
- ارتفاع في التكلفة التشغيلية
أما الكلفة التشغيلية، فقد شهدت ارتفاعًا حاداً منذ بداية التشديدات، يُشير شاهين إلى أن استهلاك الديزل لشاحناته ارتفع بشكل لافت: "قبل الأزمة، كانت المصاريف معقولة، اليوم مصروف الديزل وحده قفز إلى عشرة آلاف شيقل شهريًا، فقط بسبب الانتظار على الحواجز."
وبحسب تقديرات شاهين، فإن العمل تراجع بنسبة 40% منذ عام 2023 وحتى اليوم، نتيجة التشديدات والقيود المفروضة على الحركة.
ما يحدث في هذا الإطار ليس مجرد معاناة فردية، بل نموذج مصغر عن كارثة اقتصادية تضرب بيت فوريك وبيت دجن المجاورة، وعدم استقرار تجاري.
- الحاجز سلاح تعذيب يومي
في شهادة مؤثرة، تحدث الناشط في العمل الشعبي مناضل حنني عن حجم الضغوط التي تتعرض لها بلدتا بيت فوريك وبيت دجن بفعل الإجراءات الاحتلالية التعسفية، موضحًا أن الحاجز العسكري تحول إلى أداة عقاب جماعي تستنزف حياة الأهالي على مختلف الأصعدة.
بدأ حنني حديثه بالإشارة إلى مشروع تنموي زراعي ضخم نفذ خلال العامين الماضيين، قائلاً: "أقمنا شبكة مياه زراعية حديثة في السهل الممتد بين بيت فوريك وبيت دجن، استفاد منها أكثر من 250 مزارعًا، وكل هؤلاء باتوا يعتمدون يوميًا على حركة التنقل لجلب منتجاتهم إلى سوق نابلس المركزي".
لكن مع تشديد الحواجز والإعاقات المتعمدة، أصبحت حركة السير اليومية تحديًا مرهقًا، ولم تقتصر المعاناة على المزارعين فحسب، بل شملت شريحة واسعة من الطلبة والعمال.
وأوضح حنني أن هناك أكثر من 300 طالب وطالبة من بيت فوريك وبيت دجن يدرسون في جامعة النجاح الوطنية وحدها، بالإضافة إلى نحو 150 طالباً وطالبة في جامعات وكليات أخرى، جميعهم مضطرون يوميًا لعبور الحاجز.
إلى جانبهم، آلاف العمال الذين يتوجهون للعمل في نابلس أو في ورش البناء، ما يجعل البلدتين تشهدان يوميًا حركة خروج ودخول تتجاوز 700 مركبة ما بين سيارات عمومية وخاصة.
- أداة تنكيل مقصودة
وصف حنني طبيعة المعاناة اليومية أمام الحاجز قائلاً: "التفتيش اليومي، الإعاقات المتعمدة، والمعاملة المهينة، كلها تهدف إلى تنغيص حياة الناس. وأحيانًا تكون هذه التصرفات فردية من قبل الجنود".
وأشار إلى أن بعض الأيام تشهد إغلاقًا كليًا للبوابة دون سابق إنذار، ما يعرقل وصول الطلبة إلى جامعاتهم والعمال إلى ورشهم والأطباء والموظفين إلى أماكن عملهم.
- اقتحامات مستمرة.. ورسائل نفسية مدمرة
لم تقتصر ممارسات الاحتلال على الحاجز فحسب، بل أصبحت الاقتحامات اليومية لبيت فوريك جزءًا من معاناة المواطنين، حيث يرى حنني أن الهدف منها مزدوج: أولاً، إيصال رسالة للسكان بأن الاحتلال موجود دائمًا في حياتهم، وأن عليهم التعايش مع هذا الواقع القسري، وثانيًا، دفع بعض الأفراد، خصوصًا ممن أنهكتهم الضغوط النفسية والاجتماعية، إلى التفكير بالهجرة أو النزوح إلى مناطق أخرى خارج البلدتين.
يكمل الناشط مناضل حنني شهادته حول الوضع الكارثي الذي تعيشه البلدتان، مؤكداً على أن الحاجز العسكري، الذي يشكل المنفذ الوحيد للسكان، بات أداة تدمير يومي لحياتهم.
يقول حنني: "لا يوجد أي مدخل آخر للبلدتين، والطرق المحيطة أصبحت خاضعة بالكامل لسيطرة المستوطنات".
ويتابع: أن المنطقة الواقعة بين البلدتين تضم منطقة صناعية نشطة تحتوي على مصانع للطوب والباطون والبلاط، جميعها تقع بعد الحاجز، ما جعلها تدفع ثمن التشديدات العسكرية بشكل مباشر.
- الاقتصاد في حالة شلل شبه كامل
من موقعه كعضو سابق في المجلس البلدي، أوضح حنني أن الحركة الاقتصادية كانت نشطة، حيث كانت تصدر أسبوعيًا بين 10 إلى 15 رخصة بناء أو تعديل مشاريع جديدة، لكن مع اشتداد القيود والحصار على الحاجز، انخفض العدد إلى رخصة أو اثنتين بالكاد شهريًا.
يوضح حنني أن المواطنين اليوم بالكاد يفكرون في تأمين قوتهم اليومي بدل التفكير في المستقبل، بفعل الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار.
- استهداف ممنهج للبنية التحتية
لم يتوقف الاحتلال عند تشديد الحصار، بل تعداه إلى استهداف مشاريع حيوية.
يوضح حنني أن قوات الاحتلال اقتحمت مؤخرًا بلدة بيت دجن وعطلت توسعة مشروع زراعي حيوي وصادرت كافة المعدات، كما هاجمت ما يسمى بـ" سلطة المياه" الآبار الزراعية في المنطقة، وصورتها بدقة، ما ينذر بنية الاحتلال لإغلاقها، ما سيؤدي إلى شل النشاط الزراعي بالكامل.
وينوه إلى أن هناك خوف كبير بين الأهالي من أن تكون هذه الاقتحامات تمهيدًا لضرب آخر ما تبقى لنا من مقومات الحياة، مؤكدًا ان ما يجري هو سياسة عقاب جماعي مدروسة، تشمل: إغلاق الحاجز بشكل مفاجئ، واقتحام البلدة وتخريب الممتلكات، ومصادرة آبار المياه الحيوية، ومنع التوسع العمراني في مناطق التصنيف (ج)، ومصادرة المعدات الثقيلة مثل الحفارات.
وشهدت بيت فويك مصادرة أكثر من خمس حفارات خلال فترة قصيرة، ما كبد أصحابها مخالفات مالية ضخمة، ورسوم أرضيات للمعدات المصادرة.
ويؤكد حنني أن كل هذه الإجراءات لا تهدف فقط إلى خنق مشاريعنا، بل إلى إحباط أي فكرة للتنمية، وزرع الخوف والتردد الدائم في عقول الناس.
في ختام حديثه، شدد حنني على أن بيت فوريك وبيت دجن أصبحتا ساحة صراع يومي بين إرادة الحياة والإرادة الإسرائيلية لكسر الروح الجماعية للصمود.
وكشف رئيس بلدية بيت فوريك، حسين حج محمد، عن حجم المعاناة التي تفرضها سياسات الاحتلال عبر حاجز بيت فوريك العسكري، الذي وصفه بـ"السجن الكبير المفتوح"، والذي يقف حائلاً أمام حركة أكثر من 25 ألف نسمة من سكان بلدتي بيت فوريك وبيت دجن شرق نابلس.
ويوضح محمد أن هذا الحاجز عندما يغلق يتحول المشهد إلى عزلة تامة. لا مداخل أخرى، ولا طرق بديلة، فالمحيط محاصر بالشوارع الالتفافية والمستوطنات الاستيطانية التي قطعت صلة البلدتين بأي قرى مجاورة.
ويشير إلى أن الإغلاق المتكرر يتسبب بشلل تام في حركة الطلاب الجامعيين، والموظفين، والعمال، وحتى المرضى. وأردف بلهجة يغلب عليها الأسى: "حدثت حالات إجهاض على الحاجز، بل سجلنا حالات وفاة بسبب منع مرور سيارات الإسعاف في الوقت المناسب. الحاجز لا يعيق فقط الحرية بل يهدد الحياة نفسها".
ويضيف: أن مع كل اقتحام ينفذه المستوطنون لقبر يوسف، يتم فرض إغلاق شامل على الحاجز يستمر من 6 إلى 10 ساعات متواصلة، يتم خلالها عزل بيت فوريك وبيت دجن عن العالم، تحت ذريعة "الاعتبارات الأمنية"، وهي الحجة التي وصفها بأنها مجرد غطاء لممارسة العقاب الجماعي بحق الأهالي.
- التكاليف تضاعفت ثلاث مرات
ويؤكد رئيس بلدية بيت فوريك، في حديثه، عن حجم الأضرار البالغة التي لحقت بالمواطنين وأصحاب المصالح التجارية في بلدتي بيت فوريك وبيت دجن، نتيجة التشديدات العسكرية المفروضة على الحاجز الاحتلالي المقام على مدخل البلدتين.
ووصف الوضع قائلاً: "بسبب وجود الحاجز، والتشديدات التعسفية عليه، المواطن هو الخاسر الأكبر، فأصحاب الدكاكين الصغيرة ومحال الخضار والمواد التموينية الذين يعتمدون على جلب بضاعتهم من نابلس أو جنين أو من أي مدينة أخرى بالضفة، وجدوا أنفسهم أمام ارتفاع حاد في التكاليف، بلغ ثلاثة أضعاف الكلفة السابقة".
ويتابع: أن هذا الارتفاع الفاحش دفع التجار لرفع أسعار السلع، مما انعكس مباشرة على المستهلكين الذين يعيشون ظروف اقتصادية صعبة.
ويوضح حج محمد أن رجال الأعمال والمقاولين المحليين، الذين يملكون مصانع أو شركات، لم يسلموا بدورهم من هذا الضرر، ويشير إلى أن أي مشروع أو شحنة كانت تنجز في ستة أشهر، اليوم تخسرها وتستنزفها في تسعة أشهر، بسبب التأخيرات على الحاجز أو الإغلاقات المفاجئة.
- حاجز يتحكم به "مزاجية الجنود"
ويوضح أن البوابة التي تتحكم بحركة الدخول والخروج إلى البلدتين، تخضع لمزاج الجنود ولا تفتح أو تغلق وفق جدول زمني محدد، مما يجعل حياة الأهالي رهينة قرارات آنية وغير مفهومة.
ووصف حج محمد المشهد قبل وبعد تشديدات الحاجز بالقول:" قبل هذه الإجراءات، كانت البلدتان تستقبلان يوميًا عشرات الباعة المتجولين وأصحاب المصالح التجارية، وكانت المسافة بين بيت فوريك وسوق نابلس المركزي تقطع في خمس دقائق فقط، كون المسافة لا تتجاوز أربعة كيلومترات. أما اليوم، فأصبح الوصول يتطلب ساعات طويلة من الانتظار على الحاجز، ما تسبب في مضاعفة مصاريف المحروقات، فمثلاً ما كان يكلف المواطن عشرين شيقل من الوقود، أصبح يكلفه أربعين شيقل".
- ارتفاع تكاليف النقل والتخلي عن السيارات الخاصة
لم يتوقف التأثير عند هذا الحد، بل شمل أيضا ارتفاع أجور المواصلات بشكل ملحوظ، حتى أصحاب السيارات الخاصة بدأوا بالتخلي عنها مجبرين، مفضلين الاعتماد على سيارات الأجرة، لتقليل استنزاف النفقات اليومية.
كما تراجع حضور الباعة المتجولين بشكل كبير، نتيجة صعوبة الوصول إلى البلدتين، ما أدى إلى ضرب الحركة التجارية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها