بقلم: حسن عبادي
تواصل معي صديقي المقدسيّ خليل العسلي طالباً أن أحضر له أربع نسخ من كتاب "سقوف الرغبة" للأديب المقدسيّ محمود شقير (قصص قصيرة جداً، 174 صفحة، تصميم ومونتاج: شربل إلياس، إصدار: مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة لصاحبها الصديق صالح عباسي) فكانت فرصة لأقرأه ثانيةً بعد مرور ما يزيد عن سبع سنوات من قراءتي السابقة وجاءت قراءة مختلفة ومغايرة جداً.
كتب شقير في البدء: "إلى المدينة التي زرعت في قلبي الدهشة. إلى القدس"
جاءت المجموعة في 132 قصّة قصيرة، الحلم هو بطل المجموعة دون منازع؛ جاء ذكره (ومشتقّاته) 148 مرة، منها أحلام النوم وأحلام اليقظة لتتداخل ولتتشابك معاً، بين الحقيقة والمتخيّل، ويصعب الفصل بينها، ويبدو أن شقير يلجأ لتقنيّة الحلم كي لا نؤاخذ "أبطاله" على نزواتهم وعمايلهم.
رغبة
"ليلى التي تبيع في حلمي وحلمها ورق الدوالي عند باب العمود
ألحّت عليها رغبة لم تفصح عنها لزميلتها المقرفصة إلى جوارها: أن تستلقي على البلاط العتيق لعشر دقائق أو عشرين.
لكنّها لم تفعل، كما قالت لي، بسبب عيون المارّة وأقدام الجنود"
تتمازج ليلى بالقدس لترسما معاً حكاية عشق سرمديّة؛ يتجوّل قيس مع ليلاه في أزقّة القدس العتيقة وأحيائها رغم أنف المحتلّ الغاصب وحواجزه ليسرقا لحظة حب وطمأنينة.
"جاءت عند منتصف الليل، أو ربما قبل ذلك بقليل، وقالت بصوت خافت: تخطيتُ دوريّة للجنود على تخوم الحيّ، وجئتُ"، تأمّلها فإذا بها ليلاه، تأخذ بيده بعيداً عن همومهما المقدسيّة، فلا يدع الفرصة تفوته، بل يُدخلها حلمه، "قلت: ادخلي حلمي، فأنا في انتظارك. دخلت، وكانت تتأوّد مثل غصن البان، ثم أغلقت خلفها باب الحلم كي نبقى وحدنا. قلتُ، لا تغلقي الباب لكي نرقبَ الناس وهم يمرّون من أمامنا. قالت: يهمّني الآن أن نظفر بلحظة من هدوء وصفاء" (ص 12)، ليعيشا حلماً جميلاً دون رقيب.
كانت رحلة عشق ومجون أزليّة، رغم كونها رحلة حلم "مضينا معا في درب طويل، وطاب لها وأنا أحملها أن تغنّي.
غنّت بصوت شجيّ، وأنا طربتُ. تمايلت على وقع الغناء مقلّداً حركات الراقصين.
قالت: تُعجبني هذه الحركات.
قلت: يعجبني هذا الغناء.
أمعنت في الغناء، ولم يقطع علينا بهجتنا سوى حلمٍ ما."
أفاقا من الحلم حين ارتطما بحاجز وجنود ومنغّصات ونكد يوميّ وواقع مرير.
يقولها شقير بصريح العبارة؛ يراهن على الجيل القادم، صانع الحلم، فالأحلام تتحقّق، ويناشد برفع سقوف الرغبة والأحلام، فتخرجه من الظلمات إلى النور، يتحدّى الواقع المريع ليبني مدينته الفاضلة على مقاس أحلامه لعلّه يرضى ليلاه وفرس أحلامه فيشيّد لها حصناً منيعاً يكون لهما ملجاً رغم أنف المحتل الغاصب، "جنود غرباء، حملونا ونحن في الفراش وألقوا بنا في العراء، ثم وضعوا المواد الناسفة في زوايا البيت ونسفوه. لم يعد لنا بيت. سأبني لك بيتاً. بيت لا تطاله المواد الناسفة، وهو قادر على البقاء"، ويصنع لها لحظة من الفرح، رغم الوجع والمعاناة والمأساة؛
"تعبنا ونحنُ نُحصي مآسينا
وحينَ ظفرنا بلحظة فرح
ذُهلنا، ثم أفرطْنا في البكاء." (ص 137)
ويظلّ السؤال عالقاً، هل للحلم نهاية، هل نقف مكتوفي الأيادي بانتظار تلك النهاية المنتظرة؟
"القدس استحمّت بماء المطر.
مطر شحيح لم يكد يُبلّل جسدَها، ثم جلست على مرتفع من الأرض تمشط شعرها، وتتلو تعويذة لعلّها تُقصي عنها الخطر.
وللقدس بعد المطر، رائحة امرأة غادرت لتوّها دفء الفراش.
وجلست طوال النهار تنتظر، وهي ما زالت تنتظر." (ص 151).
كأنّي بالمجموعة لوحة فسيفسائيّة متكاملة، سيمفونيّة غنائيّة متناغمة وعناوينها معاً بدايات لمعزوفة أوركسترا قائدها المايسترو محمود شقير، تشكّل كلّ منها مقطوعة منفردة.
كتب أ.د. محمد عبيد الله في التظهير: "قام شقير بمحاولة تجريبية جادة لتقديم نمط خاص من القصة القصيرة جداًّ، وذلك بتحويل القصة الواحدة أو المفردة إلى "وحدة سردية" تنتظم في سياق أو بناء أو مناخ أوسع يجمع الوحدات في متوالية سردية أو بناء موحد".
وجدت القصص، بعناوينها، مغنّاة متناسقة؛
المقطوعة الأولى: أمكنة وحركة؛ سهل فسيح، نقص الهواء، رصيف، بساط الريح، طائرات، حلم، قطار، ماء النبع، شرفة، ماء، شلال، سطح، سور الدار، طيران، مرآة، بركة الأسماك، عتبة، أدراج، أسواق، مصعد، سوق الحدادين، البحر.
والثانية: قرويّة ودفء؛ أرانب بريّة، ورق دوالي، عنزة، جرّة زيت، أشجار، كلب، ورق تين، حنّون، صحن العجين، الحصان، قطة، حليب، عطر.
والثالثة: محاولة جادّة للحياة؛ حلم، طقس، رغبة، ضجيج، صمت الأمكنة، طيش، مزاح، باب المدينة، قلادة، مطعم، رغبات، خداع، انقياد، وصية، حنين إلى الماء، تغريد، ابتهال، هروب، موت، ترحيب، ركض، خيال، انتظار.
والرابعة: مرساة وأمان؛ بيت، غابة من نساء، إغواء، آدم وحواء، ميدان، عري الساق، ببّغاء، وحذاء.
والخامسة: كومبارس؛ كهل، أطفال، خيول، الممرضة، شرطيّ الحراسة، رجل وامرأة، بائع الحليب، كلّ البنات، المرأة العاقر.
والسادسة: بلسم الحياة؛ لحظة فرح، قلب، جرس، حاجز.
يلجأ شقير كعادته، بحرفيّة، إلى أسلوبه الذي عوّدنا عليه بسخريته السوداوية، وهذه المرّة من المحتل الذي يحاول التنغيص "مضينا إلى صالة للأفراح. هناك، كنّا نوزّع الحلوى على الجالسين ونغنّي حين جاءنا المستوطنون وأطلقوا علينا النار. جاء الجنود. قلنا ونحن نطلق فكاهة سوداء: هم في العادة لا يُطلقون النار بتاتاً، حتّى إنّ البنادق تصدأ في أيديهم! ظلّوا يطلقون علينا النار، ونحن نغنّي وننزف الدماء، ولا نموت، نعم لا نموت".
يشدّني عالم الأسرى وعائلاتهم، وفي السنوات الأخيرة يشكّل محوراً أساسياً في حياتي، وسمعت من أسيرات وأسرى كثر عن حرقتهم لحرمانهم من مرافقة أولادهم و/ أو أحفادهم في طريقهم إلى المدارس، فجذبتني بشكل خاص قصّة بعنوان "أطفال"؛
"كنّا، أنا وليلى، نمشي قرب سور المدينة في شارع مضاء.
حدّثتني عن بنت الأسير التي مضت في الصباح إلى المدرسة، مدّتْ يدَها لعلّ أباها يقودها إلى هناك. وصلتِ المدرسة ويدُها ممدودة في الفراغ.
حدّثتني عن أطفال الأسير الذين يراقبون طريق الحيّ بلهفة كلّ مساء.
كنّا نمشي ونشعر بأنّ الأطفال يمشون معنا وفي عيونهم أمل ما." (ص. 100) وأخذتني مجدّداً للقاء جمعني في أيلول 2019 بأسير عبر القضبان حين كلّمني بثقة وأريحيّة، شموخ وأنفة ... وحرقة. يحزّ في نفسه عدم مرافقة حفيدته تاليا للمدرسة في يومها الأوّل في الصف الأوّل، عدم تمكّنه من معايدة حفيدته رومي في عيد ميلادها الثاني الذي سبق لقاءنا بثلاثة أيام، لكنّه رغم ذلك يشعّ إرادة وتفاؤل بغدٍ أفضل لأنّ أطفالنا يستحقّون الحياة.
جاءت النهاية تفاؤليّة بامتياز، تشعّ منها حريّة الوطن "ذات يوم، عند الحاجز العسكريّ، في الطريق من رام الله إلى القدس، انتظرنا، أنا وليلى، ثلاث ساعات.
شربنا قهوة من بائع جوّال، تداولنا آخر الأخبار، ولم نتذمّر من شدّة الحرّ رغم ما أصابنا من إرهاق. وبالقرب منّا امرأة تُسرّح شعرَها، كأنّها تُهيئ نفسَها كي تنام.
والازدحام كان على أشدّه، والجنود الغرباء بدوا مُتعبين خلف الحاجز، كما لو أنّنا نحن الذين نحتجزهم هناك" (ص 160).
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها