علميًا تتمظهر مقدمات الحرب الأهلية في أي مجتمع، عندما يحدث الصدام بين المبنيين الفوقي والتحتي، بين الحاكم والمحكوم، بين الشعب صاحب السلطات الأساسية وبين النظام السياسي، فلا السلطة التنفيذية تستطيع الحكم، ولا الشعب يقبل بولايتها، عندئذٍ تتعمق التناقضات التناحرية في المجتمع. لكن في الحالة الإسرائيلية الماثلة للعيان في هذه المرحلة، الواقع مقلوب أو مختلف، وله كطابع خاص، حيث تتعمق التناقضات بين الدولة العميقة وبين النظام السياسي، وانقسام حاد داخل المجتمع الإسرائيلي بين أنصار الموالاة والمعارضة، وهذا أشد خطرًا على الدولة ككل، وليس النظام السياسي.

وهذا ما شخصه الكاتب الصحفي الإسرائيلي، تسفي برئيل في صحيفة "هآرتس" أمس الأول، في مقاله المعنون "بنيامين نتنياهو بات تهديدًا وجوديًا"، وجاء فيه "ظاهريًا، هذا يبدو كأنه مشهد آخر من البيروقراطية الشيطانية، رئيس حكومة يستخدم سلطته، التي لا يزال يتعين التحقق من مدى قانونيتها، والتي أدخلت المحكمة العليا في حالة موت سريري، وأفرزت منظومة قوانين فاشية تسعى لتقليص مساحة حرية الرأي والتعبير والثقافة، بينما تستهدف المعلمين ومديري المدارس، وتقوض مبدأ المساواة أمام القانون. تحت غطاء الحرب، وباستغلال سلسلة من المناورات والأكاذيب الدينية التي أوحت بأن رئيس الحكومة "يفعل ما بوسعه" لإعادة المخطوفين".

ويتابع: "واصل نتنياهو الحفر بعنف تحت أسس الديمقراطية لكن بعكس الزلزال الطبيعي". وأضاف: "لا بد من قراءة هذه الجملة، مرارًا وتكرارًا، لاستيعاب عُمق الفساد الذي تفشى في الحكم، وحجم فقدان الثقة به في دولة لا تزال تتشبث بقوة بآخر ركائز الديمقراطية قبل أن تهوي إلى الهاوية". ويردف قائلاً: "مثلما قلنا مليون مرة سابقًا، إن رئيس "الشاباك" هو المسؤول الرئيسي عن الكارثة الأسوأ في تاريخ دولة إسرائيل، لكن هو وإقالته ليسا السبب الحقيقي للاحتجاج". والمظاهرات التي تتوسع وتزداد يوميًا، لها أسباب أخرى. وخلص إلى "فالصرخة التي تتفجر اليوم، صرخة الغضب والإحباط واليأس، ليست ضد الكارثة السابقة، بل ضد الكارثة القادمة التي نعيش خضمها. هذه الكارثة لا تهدد فقط منطقة غلاف غزة، أو مستوطنات الشمال، ولا حياة الأسرى الذين ما زالوا على قيد الحياة، ولا حتى جثث القتلى الذين ينتظرون دفنهم، بل أيضًا هي تهديد وجودي لدولة إسرائيل بأكملها. ودفن مستقبلها، وتحويل ما كانت عليه، وما كان مقدرًا لها أن تكون، إلى كومة من الأنقاض".

وتعميقًا لما ذكره برئيل، قال الصحفي الإسرائيلي، جاي بيلج في مقابلة مع القناة "12" يوم أمس الأول الجمعة: "أنا وأمنون قلنا هذا أكثر من مرة، أن نتنياهو خطر على إسرائيل، في هذا المساء يجب القول، إن نتنياهو وحكومته هم الأعداء الأخطر على دولة إسرائيل، هم الخطر الأكبر". وأضاف: "حماس لا يمكنها تدمير إسرائيل، حتى في اليوم الذي كنا فيه نائمين وفاشلين، حزب الله لا يمكنه تدمير إسرائيل، سوريا لا يمكنها تدمير إسرائيل، من يمكنه تدمير إسرائيل كدولة ديمقراطية هو بنيامين نتنياهو، الذي أعلن أنه لن يلتزم بقرار المحكمة العليا، الذي قد يفرض عليه رئيس شاباك لا ثقة له به".

تلازمت هذه القراءات الإسرائيلية مع تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية ضد الائتلاف الحاكم لسببين، الأول المطالبة بالإفراج أولاً عن المحتجزين الإسرائيليين، والثاني ضد إقالة كل من رونين بار، رئيس الشاباك والمستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراب ميارا. التي ترافقت مع إعلان الهستدروت أنها ستشل كافة مرافق الدولة ومصالحها الاقتصادية، إذا لم تحترم الحكومة قرار المحكمة بوقف قرار عزل رئيس الشاباك. وهو ما يعني وفق تقديرات صحيفة "يديعوت أحرونوت" بأن أي إضراب شامل احتجاجًا على إقالة رئيس الشاباك سيتسبب بضرر اقتصادي بنحو 5 مليارات و800 مليون شيقل يوميًا، وهو سيعمق الأزمة الاقتصادية المتفاقمة أصلاً نتاج الإبادة الجماعية.

ولم يتوقف الأمر عند تهديد الهستدروت بالإضراب، بل إن منتدى رجال الأعمال الإسرائيلي، الذي يضم نحو 200 من كبار قادة الاقتصاد هدد أيضًا: في حال لم تحترم حكومة نتنياهو قرار المحكمة، وجرت البلاد نحو أزمة دستورية، فستدعو جميع المواطنين إلى التوقف عن الامتثال لقرارات الحكومة بكل ما يترتب على ذلك، وسنعمل على شّل الاقتصاد الإسرائيلي بالكامل، بحسب القناة الـ"12" الإسرائيلية. وأيضًا هددت شبكة "الهدد" الهيئة الإسرائيلية للتكنولوجيا الفائقة (الهايتك)، والتي تضم العشرات من كبرى شركات التكنولوجيا وصناديق الاستثمار، بـ"وقف عمل الشركات إذا لم تلتزم الحكومة بقرار المحكمة العليا، أو أي أمر قضائي بتجميد إقالة رئيس الشاباك، رونين بار".

نلاحظ مما تقدم، أن الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي فريد واستثنائي، حيث يقوم التناقض بين قطاع واسع من المجتمع والدولة العميقة ضد حكومة الائتلاف الفاشية، وهذا الأمر لم يكن مسبوقًا في تاريخ الدولة الإسرائيلية، ويهدد مستقبلها بكل مكوناتها، ويدفع بالانفجار الداخلي، الذي هو أشد خطرًا على دولة إسرائيل من أي خطر خارجي آخر. لا سيما أن التناقضات لا تنحصر في إقالة رونين، وإنما هي أعمق وأشمل من ذلك، وللالتفاف على إقالة رئيس الشاباك، تمت دعوته أمس للاجتماع مع الكابينيت المصغر في محاولة لإيجاد مخرج من الأزمة الحادة والعميقة، ولا أعتقد أن نتنياهو وائتلافه سيتراجعون عن إقالة بار ولا المستشارة القضائية، ولكن قد يتم التحايل على رجل الشاباك الأول بحل وهمي لإطفاء النيران المشتعلة في المجتمع الإسرائيلي، ومع ذلك، أي مراقب موضوعي لا يمكنه الاعتقاد، بأن الأزمات يمكن حلها مع الائتلاف الحاكم، لأن حجم الأزمات المترافقة مع رفض نحو 30% من ضباط وجنود الاحتياط الإسرائيليين الالتزام بالعودة للخدمة نتيجة الإنهاك، وللشعور بأن عودة نتنياهو لدوامة الإبادة على الشعب الفلسطيني لا علاقة لها بالقضاء على حماس، إنما ترتبط ارتباطًا عميقًا بالحسابات الشخصية لنتنياهو وضمان بقاء ائتلافه الحاكم في سدة الحكم. لذا المؤشرات تشي باقتراب انفجار الوضع الداخلي الإسرائيلي، كيف؟ وإلى أي منحى ستتجه الأمور؟ فهناك مآلات عدة يمكن العودة لها لاحقًا.