تتفاقم الأزمات الداخلية في الكيان الإسرائيلي يومًا بعد يوم بسبب الاتجاهات والسياسات اليمينية التي تسيطر على الحكومة الإسرائيلية. ومع تفاقم تلك الأزمات فإنها تترك انعكاساتها على داخل الكيان الإسرائيلي من جهة، وتترك بصماتها على التوترات الإقليمية والعلاقات الدولية من جهةٍ أخرى، مما يترك الباب مفتوحًا أمام مصير هذه الحكومة سواء بقيت في الحكم إلى انتهاء مدة حكمها أو ذهبت إلى انتخابات مبكرة. وتطول الأزمات قطاعات مختلفة منها: السياسية والاجتماعية والاقتصادية على حد سواء، كل ذلك له انعكاسات على الإقليم بشكلٍ واسع بسبب التوترات التي تتركها الحرب على غزة، والتوتر في الشمال على الحدود مع لبنان وسوريا. تدل تلك الانعكاسات على أن سياسات الحكومة تترك فراغًا في الشأن العام الإسرائيلي وهذا يحتاج إلى إجابات وأفعال لمعالجتها، ولكنها وضعت لنفسها أولويات أخرى تاركة تلك التساؤلات دون إجابات، مما خلق مساحة للعمل في الشارع الإسرائيلي وعلى رأس ذلك قضيتين هامتين وهم الرهائن الإسرائيليين لدى حركة حماس، والأخرى تتعلق بالتغيرات التي وضعتها الحكومة على أجندتها في الجيش والقضاء ومنظومة الدولة العميقة، ومنها مجموعة الإقالات والتعيينات لكبار مسؤولي الدولة وآخرها إقالة رئيس الشاباك "رونين بار"، مما يترك المجال للتفسيرات إلى أين تتجه إسرائيل إذا ما تم ذلك؟. وهذا يعني أن عصر الديمقراطية في إسرائيل قد انتهى.
القاضي أيهود براك الذي شغل منصب رئيس المحكمة العليا في إسرائيل يقول: "الحرب الأهلية بدأت في إسرائيل"، بينما يقول آخرون أن إسرائيل دخلت في "الفوضى الخلاقة"، وهذا وضع مثالي لرئيس الحكومة الإسرائيلية واليمين الإسرائيلي، في ظل هذه المناخات يتم التغطية على قضية ما يسمى ادعاء الاخفاقات في يوم السابع من أكتوبر، لصد هجوم حركة حماس الذي لم تطلق إسرائيل فيه رصاصة واحدة على المهاجمين من الحركة طيلة ساعات الهجوم، وتلك واحدة من القضايا التي بقيت تشغل بال الرأي العام الإسرائيلي، ويرفض نتنياهو فتح تحقيق في ملابساتها لتبقى أسرارًا يحتفظ بها نتنياهو لنفسه، لكن تشير الوقائع إلى أن نتنياهو تحديدًا كان يعلم بالهجوم وتفاصيله لكنه أبقى ذلك طي الكتمان لينفذ مخططات تم إعدادها مسبقًا بخصوص الشأن الفلسطيني، وكان يحتاج إلى مثل تلك العملية النوعية لتنفيذ مخططاته. وفي ظل هذه المناخات السياسية وانعدام الثقة بين مختلف فئات المجتمع الإسرائيلي، فإن إسرائيل تدخل في نفق مظلم له تداعياته الداخلية والخارجية.
الحراك الشعبي الإسرائيلي بدء من أجل الضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل الإفراج عن المحتجزين، وكان هذا الحراك يتمدد ويتقلص في الشارع الإسرائيلي، والحكومة الإسرائيلية تضع في أولوياتها الحرب على غزة، ولم يكن أبدًا الرهائن هم العنوان في تلك المعركة، لأن الأهداف الموضوعة تتعدى الإفراج عن الرهائن وثبت بالوجه القاطع أن إسرائيل لم تستطع الإفراج عن الرهائن إلا من خلال المفاوضات ولكنها كانت على مضض تنفذ هذه المهمة، حتى الهدنة والصفقة الأخيرة كانت إرضاءً للرئيس الأميركي ترامب قبل دخوله البيت الأبيض. وتأكيدًا على ما نقول فإن إسرائيل، مع انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق أرادت تمديد هذه المرحلة بإخراج أكبر عدد من المحتجزين دون الدخول في استحقاقات المرحلة الثانية التي كان من أهم بنودها إنهاء حالة الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة وهذا يتنافى مع أهداف الحرب من الجانب الإسرائيلي، التي أعلنت عن بدء الأعمال العسكرية مرة أخرى في غزة، وقتلت في اليوم الأول من الهجوم الأخير أكثر من خمسمئة مواطن في قطاع غزة.
ومع بدء مرحلة جديدة من الحرب على غزة من طرف واحد، لأن المستهدف هم المدنيين، وأعمال القصف والتدمير طالت المدنيين الفلسطينيين، فقد بدء الشارع الإسرائيلي مرة أخرى حراكه ليواجه انقسام الشارع وتحريض اليمين.
كما أن الحراك الإسرائيلي تعرض لأول مرة إلى العنف من قبل الأمن الإسرائيلي عندما بدء الشارع حراكه معترضًا على سياسات الإقالات التي طالت رئيس الشاباك، وهي المرة الأولى التي نسمع ونرى هذا العنف بشكل غير معهود من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية باتجاه الحراك الشعبي الإسرائيلي، وكان فقط العنف يتصدر الحراك الذي يقوم به العرب.
نتنياهو يواجه العديد من التحديات والأزمات المتدحرجة على المستوى المحلي والدولي، تتمثل في الداخل بتهم الفساد وتلقي الرشاوى، ويبدو أنه مدان في بعضها، وأخرى دولية، صدرت عن محكمة الجنايات الدولية ضد جرائم الحرب التي ارتكبها ويرتكبها بحق الفلسطينين على مدار احتلاله وحربه معهم. لذا يعمل نتنياهو في إطار ذلك إلى التهرب من كل هذه الاستحقاقات من أجل التخفيف عن كاهله من المسألة والمحاسبة على "الهروب إلى الأمام"، وذلك بخلق توترات إقليمية وبإشعال الحروب في الإقليم، وطالما أن الحروب مشتعلة فإن مصيره السياسي باقٍ، وفي حال عاد السلم انهارت الحكومة وانهار معها مستقبله السياسي. كل تلك السياسات المتدحرجة مثل كرة الثلج والنهج اليميني المتطرف الذي ينقل إسرائيل بشكل متسارع إلى سياسة الحزب الواحد، والشخص الواحد وانتهاء مظاهر الديمقراطية الكذابة في إسرائيل التي طالما تفاخرت بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فإنه يأخذ إسرائيل اليوم إلى نفق مظلم، له تداعياته على النسيج المجتمعي الإسرائيلي، مما يزيد الانقسام بينهم والذي يضع إسرائيل في وضع "الفوضى الخلاقة" ولربما يؤدي إلى الحرب الأهلية، وهذا ما يعزز ابتعاد طوق النجاة عن رقبة نتنياهو، وانتهاء عصره الدموي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها