ما زلنا في حضرة يوم الثقافة الوطنية، الذي تزامن مع تاريخ ميلاد رمز الثقافة الوطنية الشاعر الفلسطيني والعربي الكبير، محمود درويش، أحد أهم سدنة الأبجدية العربية بجمالياتها واستعاراتها وكناياتها وصورها وبلاغتها في عصرنا الراهن. ورغم أن الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية خطفت من بين أيدينا جمالية الاحتفاء بالعيد والمناسبة البهية، وأزاغت بصرنا قليلاً عن الاستحضار اللائق للرمز وليوم الثقافة نتاج الانغماس في المشهد السياسي المثقل بالدم والفاجعة والكارثة والإبادة، والمؤامرة الجديدة القديمة المستهدفة الشعب والقضية والتاريخ والموروث الحضاري والمشروع الوطني.
ومع ذلك، لا تستقيم المتابعة للوحة الصراع المحتدمة بين الشعب العربي الفلسطيني وقيادته والعدو الصهيو أميركي دون استحضار الثقافة وجبهتها الواسعة والعميقة، التي كانت وما زالت الجبهة المتقدمة، وتقف في الخندق الأمامي للدفاع عن الشعب والقضية والمشروع الوطني، ولهذا بقدر ما يوجه الأعداء الإسرائيليون والأميركيون قنابلهم وصواريخهم الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل إلى صدور الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء عمومًا، بذات القدر وأكثر توجه سهام أسلحتها "القانونية"، وتجييش أدوات أجهزتها الأمنية في ملاحقة الثقافة وفرسانها في مختلف حقولها الفنية التعبيرية والتشكيلية والإبداعية، فضلاً عن حملات التحريض الصفراء الظلامية الإعلامية والثقافية والدينية الصهيونية العنصرية. لكن رواد الثقافة والفن والإبداع بمختلف فرقه ومدارسه وحقوله لهم بالمرصاد، ولن تثنيهم حرب إسرائيل النازية المنفلتة من عقال القيم الإنسانية والقانونية والثقافة المتنورة عن الوقوف في وجه نازيو العصر الحديث في الألفية الثالثة.
وبالتلازم مع هذا الفجور وانفلات القمع السياسي والقانوني والثقافي الإسرائيلي، الذي لا تقتصر حدوده على أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بما فيها العاصمة القدس الشرقية وقطاع غزة، إنما تطال أبناء الشعب في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة في مناحي الحياة كافة، ولا يستثنى منها حقل الفن والثقافة، لا بل يتصدرها. لأن إسرائيل تدرك أخطار الثقافة والفن والإبداع على مشروعها الاستعماري الإجلائي والاحلالي، الذي استهدف ويستهدف الثقافة والموروث الحضاري الفلسطيني، وحتى تقمص كل ملمح من ملامح الثقافة والفن والتراث الفلسطيني، وفي ذات الوقت طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، اعتقادًا منها أنها تستطيع نفي الشعب من الحاضر والأرض والتاريخ والمستقبل. لكن هيهات أن يغادر الشعب العظيم ترابه الوطني، ولن تفت في عضده كل أسلحة الموت والإبادة الجماعية والتجويع والمرض والفاقة، فمن سطر الصمود الفولاذي في غزة على مدار الـ17 شهرًا الماضية، يملك الإرادة والقدرة لكسر الدولة الإسرائيلية المثخنة بالتآكل والسوس والعفن والصراعات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية الداخلية.
ومن نماذج الإرهاب العنصري الإسرائيلي على الفنانين الفلسطينيين في الجليل، تعرض الفنان الكوميدي الساخر، نضال بدارنة للاعتقال بسبب نكاته الساخرة حول الوضع السياسي الإسرائيلي العام، وملف المحتجزين في قطاع غزة، وفق ما ورد في تقرير نشره موقع "+972" الإسرائيلي. وهذا الاعتقال لم يكن مجرد حالة فردية، إنما هو جزء من حملة قمع أشمل وأوسع استهدفت وتستهدف الفنانين الفلسطينيين وكل من يعبر عن رأي مخالف للرواية الإسرائيلية الرسمية.
وكانت الشرطة الإسرائيلية اقتحمت بيت الفنان نضال في 24 شباط/فبراير الماضي في حيفا، واعتقلته بتهمة "الاخلال بالنظام العام". وهي تهمة فضفاضة، وغير محددة، تستخدم لتكميم الأفواه، وقمع الأصوات المعارضة للسياسة الرسمية الإسرائيلية، وجاء الاعتقال لبدارنة بعد عملية تحريض واسعة من قوى اليمين الصهيوني المتطرف بسبب نكاته الساخرة من المهزلة الإسرائيلية تجاه المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة. وكان قبل فترة من الاعتقال للفنان بدارنة برنامج "هازينور" الإسرائيلي نشر ترجمة لما تضمنته عروضه الفنية من النكات.
ولم تأتِ عملية الاعتقال للفنان نضال منفصلة، أو مقطوعة الجذور عما سبقها من انتهاكات إسرائيلية بعد الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في اعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث تم توجيه نحو 200 تهمة "تحريض" عنصرية ضد المواطنين الفلسطينيين، شملت العديد من الشخصيات الثقافية، بمن فيهم فنانين واعلاميين وأكاديميين. ولم يتأخر وزير الثقافة الإسرائيلي، ميكي زوهار عن الإدلاء بصوته، والإعراب عن موقفه المؤيد لعملية الاعتقال لبدارنة، وقال: "كل من يمزح بشأن المحتجزين مكانه السجن أو غزة، لا المسرح". وهو ما يعكس سياسة التمييز العنصري الفجة، ويشير بوضوح لوجود قانونين في إسرائيل، قانون لليهود الصهاينة وقانون للفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية، ففي الوقت الذي يسمح للإسرائيليين من مختلف المشارب التعبير عن مواقفهم والاستهزاء من الفلسطينيين، والإساءة لضحاياهم، والاستخفاف بصمودهم البطولي، يمنع على الفلسطيني، أن يقول "حسبي الله ونعم الوكيل"، كما حدث مع الفنانة دلال أبو آمنة، حتى أولئك الإسرائيليون الذين سخروا من المحتجزين الذين أفرج عنهم، كما ورد في برنامج "أرض نيهدريت" الاسرائيلي، وما نشره الممثل الكوميدي الإسرائيلي، جاي هوشمان في مقطع فيديو لنفسه على شاطئ غزة وهو يقول: "كل شيء لنا"، وبالتلازم سخر زميله آفي نوسباوم من قتل الفلسطينيين في غزة في أحد عروضه، لم يوجه لهم أي انتقاد، ولم يتعرض أي منهم للاعتقال أو المساءلة، وهو ما يكشف عن عنصرية وازدواجية معايير.
رغم عمليات القهر والتمييز العنصري، والانتهاكات الإسرائيلية والأميركية من خلفها ضد أبناء الشعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة أو في الضفة الفلسطينية بما فيها العاصمة القدس وقطاع غزة، أو في الشتات والمهجر، لن يسكتوا الصوت الفلسطيني، وسيواصل الفلسطينيون وأنصارهم من المدافعين عن السلام والعدالة الدفاع عن حقهم في الحياة، ويتعزز هذا الإصرار أكثر فأكثر في حضرة إحياء يوم الثقافة الوطنية، يوم الفن والإبداع وحرية الرأي والتعبير والدفاع عن السردية الفلسطينية، حتى تنتصر، وستنتصر.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها