من القوانين الهامة في الطبيعة والمجتمع، نستحضر قانون أرسطو القائل "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، وقوله تعالى في كتابه الحكيم "ولولا دَفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، وفي حال تراخت القيادات والنخب الفكرية والسياسية عن مواكبة التطور والتحولات الدائمة في المجتمع، والقيام بمسؤولياتها، وتغافلت عن دورها تجاه نفسها والشعب على حد سواء، فإن الضرورة تحتم لا محالة صعود قوى جديدة، بغض النظر عن خلفياتها الفكرية والعقائدية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية لتملأ الفراغ، بغض النظر عن شرعيتها من عدمه، ومهما ادعت القوى الممسكة بزمام الأمور في هذا البلد أو ذاك بمكانتها كقوى شرعية، فلا شرعية إلا بالعمل، وتأكيد الذات بالممارسة وخدمة قضايا الشعب. وكما قال العديد من النخب الدينية، إذا تهاون أهل الحق عن التحرك للدفاع عن حقهم، ملأ أهل الباطل والفتنة الفراغ بفسادهم وباطلهم المكان.

ومن موقع المتتبع للحالة الفلسطينية، لم يعد خافيًا على أحد، أن الأزمات تعصف من كل حدب وصوب في المجتمع الفلسطيني، وتهدد المشروع الوطني برمته، وتفتح الأبواب على مصاريعها لسحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب، ولا ينحصر الأمر بسياسات ومخططات وجرائم الأعداء الإسرائيليين والأميركيين ومن يدور في فلكهم، وإنما تعود على الذات الوطنية وتراخيها أو تراجعها عن القيام بمهامها ودورها القيادي، ونتاج عدم التزامها بآليات ونواظم العمل المؤسساتي الفلسطيني، وعدم تفعيل الهيئات القيادية لمنظمة التحرير، وتغييب دورها لأسباب ذاتية خاصة، وبسبب تخندقها في مواقع الانتظار، والاحتكام لفرضية لعل وعسى أن تحمل التطورات الموضوعية إنقاذًا لها ولبرنامجها، وتعيد الاعتبار لمكانتها. ولا يكفي هنا التأكيد على الإنجازات على المستويات الديبلوماسية القانونية الأممية على أهميتها، لأن الأهم والأولوية هنا في الداخل والذات الفلسطينية، تريد الجماهير أن تتلمس حضور القيادة بينها ومعها، ووقوفها على نبضها، والا فلا نفع من كل الحديث عن الشرعية.

وهنا لا الله العلي القدير، ولا المجتمع ينتظرون تلك السياسة الاتكالية، لأن رب العباد يقول: "اعمل يا عبدي، وانا أعمل معك"، وأيضًا مقولته "العمل عبادة"، ومن يتراخى عن العمل لن ينزل عليه الله مطر الرزق، وهو جالس يتعبد ويصلي لله جل وعلا، وكذلك المجتمع الواقع تحت نير أبشع أشكال الاستعمار الإجلائي الاحلالي النازي الإسرائيلي، والمنكوب بأزمات حادة سياسية واقتصادية مالية واجتماعية وبيئية وثقافية، وكونه يعيش تحت وطأة أخطر مرحلة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ممثل بحروب الإبادة من قطاع غزة إلى الضفة الفلسطينية وفي مقدمتها القدس العاصمة، وفي ظل غياب الدور الفاعل للهيئات القيادية لمنظمة التحرير، التي لم تلتئم في اجتماعاتها الدورية، وخاصة المجلس المركزي الذي لم يعقد أي من دوراته العادية أو الطارئة على مدار ثلاث سنوات، رغم التطورات الجهنمية الصهيو أميركية، وفي ظل تعمق الانقلاب والانقسام الحمساوي، ومع وجود شرخ في العلاقة بين المجتمع والقيادة، الأمر الذي سمح لبروز قوى ونخب سياسية واجتماعية ناصبت القيادة الشرعية العداء، فحركة حماس التي لم تخفِ يومًا برنامجها منذ أن وجدت في المشهد الفلسطيني مع انطلاقة الانتفاضة الكبرى عام 1987 وحتى يومنا هذا، وعملت بمنهجية واضحة ووفق مخطط جماعة الإخوان المسلمين وأجندات القوى الإقليمية والعالمية المرتبطة لها لسحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير، والعمل على تبديد المشروع الوطني والمنظمة على حد سواء وباسم "المقاومة"، ذلك الشعار الذي أعمى المئات والآلاف من النخب الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، الذين يجهلون مخطط التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وفرعهم الفلسطيني حركة حماس.

ودون إطالة في هذه العجالة، وطرح عشرات الأمثلة على بؤس الحالة الفلسطينية، وما تشهده من أخطار لم يسبق أن ألمت بالقضية والشعب ومستقبله، فإن الضرورة تحتم على القيادات الفلسطينية المختلفة عمومًا، وقيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" الخروج من عنق الأزمة، والشروع بترتيب البيت الفتحاوي، وإعادة الاعتبار للحركة كقائد للمشروع الوطني. لأن التاريخ والطلقة الأولى على مدى أهميتها الاستراتيجية في تحقيق العديد من الإنجازات، تحتاج إلى استنهاض الذات التنظيمية والكفاحية والسياسية والاجتماعية، وإلا فلن ينفع الندم. كما أن الضرورة تملي على قيادة المجلس الوطني الدعوة العاجلة لعقد المجلس المركزي في دورة عادية لمناقشة التطورات الخطيرة ضد الشعب الفلسطيني، واستشراف برنامج وطني جامع جديد يستجيب لمتطلبات المرحلة النوعية الجديدة، بعد أن اتضح جليًا لكل بصير أن الولايات المتحدة ودولتها اللقيطة إسرائيل ليسوا بوارد القبول بخيار السلام الممكن والمقبول، ويرفضون استقلال دولة فلسطين المحتلة، وفي ذات الوقت إعادة الاعتبار لذاتها ومكانتها كممثل شرعي ووحيد للشعب، وفتح باب حوار وطني شامل مع القوى والنخب الفكرية والسياسية ومن مختلف المشارب بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي لاستخلاص العبر والدروس من التجارب التي مرت بها القضية الوطنية وآخرها الإبادة الجماعية الجارية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي انتقلت من القطاع إلى الضفة، وإيجاد الوسائل والآليات الواقعية لتجسير المسافات مع القوى الأخرى لتكريس الولاية للمنظمة والدولة والحكومة على قطاع غزة وكل جزء من أرض الدولة المحتلة في أعقاب هزيمة حزيران/يونيو 1967، وتعزيز مكانة النظام السياسي الفلسطيني التعددي والديمقراطي الحقيقي، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الظروف الذاتية والموضوعية المناسبة، لنزع الذرائع من أيدي وأفواه القوى المعادية والمتناقضة مع المشروع الوطني، وتغليب المصالح العليا للشعب على أية مصالح خاصة وحسابات ضيقة، وتطهير الذات الوطنية من الأدران والمثالب ومظاهر الفساد المختلفة، وتجسير الهوة مع الشعب وقواه الحية. اللحظة السياسية تحتم على أركان القيادة وصانع القرار الخروج من شرنقة الفراغ، والعمل على ملء المشهد الفلسطيني الداخلي بالإرادة والعمل والمراجعة للذات وللتجربة، واستشراف المستقبل بقرارات وبرامج عمل سياسية وكفاحية تتناسب مع طبيعة المرحلة.