مع شروق شمس اليوم الأحد 19/1/2025، وفي أعقاب عدوان إسرائيلي دامٍ استمر لأكثر من 470 يومًا، يبدأ قطاع غزة يومه الأول تحت مظلة وقف إطلاق النار.
هذا الاتفاق جاء بعد معاناة طويلة طيلة أيام  العدوان، وبعد دمار هائل وخسائر بشرية غير مسبوقة، لكنه أيضًا يحمل في طياته فرصة، وإن كانت ضئيلة، لاستشراق مستقبل مختلف، ليس فقط لغزة بل يجب أن يكون لفلسطين وللمنطقة بأسرها.
على مدار أكثر من خمسة عشر شهرًا، واجه قطاع غزة حملة عسكرية شرسة تركت آثارها العميقة في كل زاوية من زوايا القطاع المحاصر، وفقًا لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، فقد بلغ عدد الشهداء 46,899 ألفًا، بينهم ما يزيد عن 18,000 الف طفل و11,000 ألف امرأة، وأكثر من 15 ألف مفقود تحت الركام.
أما الجرحى، فقد تجاوز عددهم 110,725 ألفًا، يعاني الكثير منهم من إعاقات دائمة ستثقل كاهل أسرهم والمجتمع بالقطاع في المستقبل.

من جهة أخرى، تُظهر التقارير الدولية أن العدوان خلّف دمارًا هائلًا في البنية التحتية. الأمم المتحدة أكدت أن حوالي 70% من المباني السكنية والخدماتية في غزة تضررت أو دُمرت بالكامل، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمزارع والمرافق الاقتصادية الحيوية.
مئات الآلاف من الأسر باتت بلا مأوى، فيما يعاني القطاع من انهيار شبه كامل في كافة الخدمات، وخاصةً خدمات التعليم والصحة والمياه والكهرباء والصرف الصحي.

يُمثل اليوم الأول بعد وقف إطلاق النار لحظة فارقة لسكان قطاع غزة، الذين يتطلعون إلى استعادة الحد الأدنى من مقومات الحياة الطبيعية وسط ظروف قاسية.
الجهود المبذولة خلال هذا اليوم يجب أن تحمل ثلاثة مسارات رئيسية منها، الإنقاذ والإغاثة الإنسانية، مع انحسار القصف وتوقف إطلاق النار، ستبدأ فرق الإنقاذ والدفاع المدني في البحث عن المفقودين والضحايا تحت الأنقاض والمقدر عددهم بخمسة عشر ألف إنسان، ولكن هذه الجهود ستواجه عقبات كبرى بسبب نقص المعدات والإمدادات  اللازمة.
تقول إحدى الناجيات من الموت: "لم أكن أتوقع أن أعيش لأرى هذا اليوم، كل ما أريده الآن هو أن أعثر على عائلتي".
في الوقت نفسه، تسعى المؤسسات المحلية والدولية لتوفير مساعدات عاجلة تشمل الغذاء والماء والمأوى لنحو 2,3  مليون مواطن تأثروا بشكل مباشر، أو غير مباشر بالعدوان.

العدوان لم يُخلّف جروحًا جسدية فقط، بل تسبب في صدمات نفسية عميقة، خاصة بين الأطفال. تشير تقديرات اليونيسيف إلى أن حوالي 80% من أطفال قطاع غزة يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق المزمن والخوف من الأصوات العالية، لذا فإن  برامج الدعم النفسي باتت تمثل أولوية قصوى في هذه المرحلة الحالية.
ضمن بنود اتفاق وقف إطلاق النار، ستتم  عملية تبادل الأسرى بين الطرفين، بالنسبة للفلسطينيين، يمثل هذا الحدث بارقة أمل وسط المعاناة والكارثة التي لحقت بقطاع غزة.
يقول والد أحد الأسرى المحررين: "لقد عشنا شهورًا من الألم والخوف والرعب، لكن رؤية ابني حرًا  بيننا مجددًا، قد تعيد لنا بعض الأمل في الحياة".

ما يمثله وقف إطلاق النار اليوم لا يُعد نهاية للصراع، لكنه قد يُوفر فرصة نادرة للتأمل في مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا، إذا استغل الوسطاء والطرفان (الفلسطيني- الإسرائيلي) هذه اللحظة، يمكن أن يتحقق الآتي:

1. تخفيف معاناة السكان المدنيين: اتفاق وقف إطلاق النار يفتح المجال أمام إيصال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، ويفتح الباب أمام بدء عملية إعادة الإعمار.

2. تعزيز فرص الحوار من أجل تحقيق تسوية مقبولة وعادلة، رغم التاريخ الطويل من الصراع الدامي، قد يشكل هذا الاتفاق فرصة لإعادة بناء جسور الحوار بين الأطراف المختلفة، يجب أن يُنظر إلى هذه اللحظة كفرصة لتعزيز جهود السلام.

3. تجنيب المنطقة صراعات جديدة: استمرار الصراع سيؤدي إلى مزيد من جولات العنف والحروب والقتل والدمار والتهجير، وسيزيد  من بؤر التوترات الإقليمية والدولية.
لهذا، فإن استثمار وقف إطلاق النار لتحقيق سلام عادل ومستدام يصب في مصلحة الجميع.

- لكي يصبح وقف إطلاق النار نقطة تحول حقيقية في الصراع الدائر منذ 76 عامًا، يجب أن تتوفر الشروط التالية:

1. رفع الحصار عن قطاع غزة: لأن استمرار الحصار يجعل أي وقف لإطلاق النار هشًا. يجب أن تتضافر الجهود الدولية لإنهاء الحصار المفروض منذ سنوات، والسماح بحرية الحركة للبضائع والأفراد، وإعادة توحيد الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت سلطة واحدة هي السلطة الفلسطينية الشرعية، سلطة  "م.ت.ف".

2. البدء بإعادة الإعمار: وهذا يحتاج إلى دعم دولي كبير، وفي الحقيقة يجب تحميل إسرائيل المسؤولية القانونية عما لحق بقطاع غزة من دمار دون مبرر، سوى رغبة إسرائيل بالإنتقام وتدمير القطاع لدفع سكانه للهجرة.
وفقًا للبنك الدولي، يحتاج قطاع غزة إلى عشرات مليارات الدولارات لإعادة بناء بنيته التحتية، الدول المانحة مدعوة لتحمل مسؤوليتها تجاه هذه الكارثة الإنسانية التي تسبب بها العدوان.

3. إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، إن الصراع لا يمكن أن ينتهي إلا بإيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، يتمثل في ضمان  استرداد حقوق الشعب الفلسطيني كاملة غير منقوصة في حق العودة وتقرير المصير، ذلك شرط أساسي لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار الدائم.

ختاماً، رغم الكارثة الإنسانية التي خلفها العدوان الإسرائيلي، يبقى الشعب الفلسطيني بشكلٍ عام وفي غزة بشكل خاص، مثالاً حيًا على الصبر و الصمود والتمسك بالحقوق المشروعة، والإصرار على الحياة الحرة والكريمة.
وقف إطلاق النار نأمل أن يمثل فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة البناء، لكنه أيضًا اختبار حقيقي للمجتمع الدولي وقدرته على تحويل هذه الهدنة إلى خطوة نحو سلام شامل وعادل.

اليوم، ومع استئناف الحياة في قطاع غزة، تحت راية وقف إطلاق النار، يحمل الغزيون الأمل في قلوبهم، لكنهم يعلمون أن الطريق نحو الأمن والسلام والاستقرار طويل ومليء بالتحديات.
فهل سينجح العالم في جعل هذا اليوم بداية لتحول حقيقي لنهاية الصراع وتسوية السلام؟ أم أنه سيكون مجرد هدنة مؤقتة تسبق جولة جديدة من استمرار العنف والصراع؟.