تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات متسارعة، أثارت جدلاً واسعاً بين الأوساط السياسية والعسكرية. فقد تزامنت عدة أحداث محورية تتعلق بالصراعات الإقليمية وتوزيع القوى على الساحة السياسية والعسكرية، بما في ذلك اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وسقوط النظام السوري بعد هجوم واسع شنته فصائل المعارضة، فضلاً عن الخطط الإسرائيلية المعلنة بشأن ضم الضفة الغربية. حيث ترسم هذه الأحداث ملامح تحول دراماتيكي في موازين القوى في المنطقة، وما لها من انعكاسات بعيدة المدى على الأوضاع السياسية في فلسطين والمنطقة برمّتها، وكذلك على العلاقات الإقليمية والدولية.

في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تم إعلان اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، وهو اتفاق فاجأ العديد من المتابعين بسبب تمريره الهادئ على الرغم من المعارضة الشديدة التي كان يُظهرها المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية، مثل وزيري الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش. ويعكس هذا التوجّه حسابات سياسية دقيقة من الحكومة الإسرائيلية التي تسعى لتخفيف الضغوط الأمنية على جبهتها الشمالية. حيث يتيح هذا الاتفاق لإسرائيل التركيز على ملفات أكثر أهمية بالنسبة لها، مثل ضم الضفة الغربية، لا سيما أن التوقيت الحساس للاتفاق قد يشير إلى مساعي إسرائيل لتعزيز تحالفاتها بشكل غير مباشر، مستفيدة من التغيرات الإقليمية والدولية لتكريس مصالحها.

في الوقت الذي تم فيه إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، شهدت سوريا تطوراً غير متوقع بعد هجوم واسع شنّته فصائل المعارضة ضد النظام السوري، الذي أطلقت عليه اسم "معركة ردع العدوان"، وبعد 12 يوماً فقط من القتال، سقط النظام السوري بالكامل، ما شكّل ضربة قاسية لمحور "الممانعة". وقد جاءت هذه الهزيمة عقب تدهور الوضعين العسكري والاقتصادي للنظام، بالإضافة إلى غياب الدعم الروسي المباشر الذي كان حاسماً في صمود النظام. ويمثل سقوط دمشق تحولاً جذرياً في موازين القوى في سوريا والمنطقة، وقد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، خاصة في ظل تزايد النفوذ التركي والكردي في شمال وشرق سوريا، والإعلان الإسرائيلي بانهيار اتفاقية فصل القوات بين إسرائيل وسوريا لعام 1974، واحتلال مناطق حدودية جنوب غربي سوريا. 

وفي هذا السياق، تبدو إسرائيل عازمة على تسريع تنفيذ خططها لضم الضفة الغربية، على غرار ما فعلته مع الجولان السوري المحتل، مستفيدة من التطورات الإقليمية الحالية والانشغال الدولي بالأحداث المستجدّة، على حساب حرب الإبادة الجماعية في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة. وتشير التقارير العبرية وتصريحات وتعليمات بتسلئيل سموتريتش إلى أن إسرائيل تخطط لتقسيم الضفة الغربية إلى جيوب معزولة بهدف تغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي لصالحها، في خطوة تُعتبر استكمالاً لمشروع استيطاني طويل الأمد. ويتزامن ذلك مع تدمير البنية التحتية والمجتمعية لقطاع غزة، وعزله وإعادة هيكلته بشكل جذري ضمن خطة شاملة للضم، مع تحديد العام 2025 موعداً حاسماً لتنفيذها، ما يعكس سعي إسرائيل للهيمنة الكاملة على الأراضي الفلسطينية وإفشال أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية على أرض الواقع. وتكتسب هذه السياسات طابعاً خطيراً في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الذي كان قد دعم هذه التوجهات بقوّة خلال ولايته السابقة.

يعكس التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الأميركي الديمقراطي أنتوني بلينكن في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2024، حول "تحويل النجاح العسكري الإسرائيلي في غزة إلى نصر استراتيجي"، تنسيقاً واضحاً بين الأجندات الأميركية والإسرائيلية، ويزداد هذا التنسيق  في ظل حكومة بنيامين نتنياهو التي تستغل التحولات السياسية الأميركية والانشغال الدولي بالتغييرات السياسية، مثل الهدنة في لبنان والتحولات الدراماتيكية في سوريا، لتكثيف العمليات العسكرية وتنفيذ أجندات إسرائيلية بعيدة المدى.

تظل الحقيقة المؤلمة أن السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وضعنا أمام معركة كانت خسائرنا فيها تفوق قدرتنا على التحمل. ولعل الأحداث الأخيرة في جنين، في بداية كانون الأول/ديسمبر 2024، التي شهدت إطلاق النار على مقرات الأجهزة الأمنية والاعتداء على مقدرات السلطة الوطنية الفلسطينية من قبل بعض الأفراد الذين لا ينكرون ارتباطهم بقوى وأجندات خارجية، سواء إيرانية أو غيرها، لم تكن عشوائية بل جزءاً من مخطط يهدف إلى تشويه نضالات الشعب الفلسطيني وإضعاف السلطة الفلسطينية. وهذا يتيح لإسرائيل وللولايات المتحدة تقديم الذرائع لاستكمال مخططاتها في الضفة الغربية، كما يوفر حجة للمجتمع الدولي، خاصة الغربي، لإشاحة النظر عن هذه المخططات.

تبرز الأولوية الفلسطينية اليوم في الحسم الفعّال والسيطرة على المشهد الراهن، مع تعزيز الوحدة المجتمعية والميدانية تحضيراً لمقاومة شعبية شاملة. ويتطلب ذلك الاستفادة من كافة الأدوات المتاحة، جنباً إلى جنب مع تكثيف الضغط القانوني والدبلوماسي على الاحتلال في مختلف المحافل الدولية، إذ أن هذه الإجراءات ضرورية لبناء موقف فلسطيني قوي قادر على مواجهة التحديات المختلفة، والدفاع عن الحقوق الوطنية في وجه محاولات التصفية والتهجير.