سيحتاج المؤرخون إلى سنوات طويلة، ربما تزيد عن تلك التي يُمكن للفلسطينيين خلالها إعادة بناء قطاع غزة، كي يوثقوا ما خلفته الحرب على حياة الناس الناجين من الإبادة المستمرة بلا قاعٍ ترسو إليه. فسنوات الحصار التي سبقتها أنجبت جيلاً من المبدعين في الأدب والتكنلوجيا في محاولة لتغذية الروح والعقل. ربما كي يكونوا قادرين على القفز من فوق جدران ذلك الحصار الذي كان يلف تفاصيل حياة الناس، إلى فضاءات أوسع ليسوا أقل كفاءة من روّادها.

بعد أيام ستدخل حرب الإبادة على أهل غزة شهرها الخامس عشر، وقد تجاوز عدد الشهداء الأربعة والأربعين ألفاً وأربعمئة واثنين وأربعين حتى الآن، فعداد القتل مستمرٌ ويعد بالدقيقة، ومعهم ما لا يقل عن عشرة آلاف مفقود، بالإضافة إلى ما يزيد عن مئة وخمسة آلاف جريح مسجلين رسمياً لدي وزارة الصحة، ناهيك عن الآلاف الذين ربما لم يتمكنوا من الوصول للمشافي التي دُمر معظمها، أو قطعت الطرق إليها، هؤلاء جميعاً ليسوا مجرد أرقام، بل إن جميعهم كانوا ملأى بالأمل والشغف بحياة كباقي البشر في هذا العالم الذي بات قرية مفتوحة يتطلع فيها المحرومون من حياة كريمة كي يعيشوا مثل أقرانهم على هذا الكوكب.

- الأبطال الحقيقيون

نعم، لعل ما علينا رؤيته في هذا المشهد الممتلئ كآبة وقسوة، والمليء بتناقضات الصراع الأوسع بين من يمد مجرمي الحرب بالسلاح ويقدم الحماية للإفلات من العقاب، وبين من يملؤون شوارع عواصم العالم ومدنه، مطالبين بالوقف الفوري لهذه الجريمة ومعاقبة مرتكبيها ومن يساندهم. بالإضافة إلى ذلك، ومن قلب المأساة علينا إعادة تعريف معنى البطولة. نعم، علينا أن نرى ليس فقط تلك المأساة التي تدمي القلوب، بل أن نرى ما يرافقها من بطولات إنسانية، تجسدها أم احتضنت من تبقى من صغارها كي تحميهم في حدقات عينيها، بعد أن فشل الكون كله في حماية من فقدتهم، وربما ظلوا تحت أنقاض مخيم جباليا أو بيت لاهيا، كما يجسدها شاب ألقى بكل ما امتلك من شهادات جامعية، متفرغاً لطهي ما يتوفر من طعام لأهل الحي الذي نزح إليه. وكذلك صحفي لم يأبه لمخطط إبادة شواهد الجريمة، ليلتقط بعينه الدامعة وعدسة كاميرته ما يوثقه حتى لو دفع حياته ثمناً لذلك، كما يجسدها طبيب كحسام أبو صفية، ومئات الأطباء والكوادر الطبية، فحسام دفن فلذة كبده على جدار مستشفى كمال عدوان، رافضاً ترك رسالته الإنسانية لمرضاه والجرحى الذين تمكنوا من الوصول لبقايا المشفى رغم الموت الذي لاحقتهم به دبابات الإجرام والقتل ومدفعيتها، وقبله الطبيب الإنسان عدنان البرش أشهر جراحي غزة، الذي أصر على التنقل بين مشافيها لإنقاذ حياة من يستطيع على قلة الإمكانيات، ثم ارتقى شهيداً جراء التعذيب الوحشي في سجون الاحتلال، مُعَاقَباً بحياته على إنقاذ أرواح الأبرياء. أو قصة أم وزوجة كانت قد رزقت بطفلين بعد عملية زراعية، عندما ذهبت للبحث عن كسرة خبز لهما ولزوجها، فعادت لتجدهم وقد صعدت أرواحهم إلى السماء جراء قصف طائرة أميركية الصنع. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون، ومعهم من يُفجر الألم روحه الإبداعية، كما يُجسدها اليوم الروائي الشاب يسري الغول والعشرات أمثاله، أو يوثق الظواهر الاجتماعية في ظل الحرب وما يرافقها من نتوءات تتطلب المعالجة دون انتظار، فهي ليست أقل ضرورة من الصمود الملحمي لشعبنا، كما يفعل على سبيل المثال د. طلال أبو ركبه، الذي بدأت الحرب وهو في تونس، وأصر على العودة إلى القطاع، ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى بيته، وإلى أمه التي فقدت ساقها في شمال القطاع، لأنها لم تتمكن من الوصول إلى مشفى يقدم لها العلاج والرعاية. نعم هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون من قادة المجتمع الأهلي كأمجد الشوا وعيسى سابا وفادي الشيخ يوسف، وغيرهم الآلاف من الشابات والشباب الذين قبلوا التحدي كقادة أكفاء، ولم يهدروا وقتهم في مراقبة الألم والنتوءات المؤلمة، بل انخرطوا في تخفيف ذلك الألم والجوع، والقيام بكل ما يستطيعون لتوليد الأمل السلاح الحقيقي والمستهدف أولاً وأخيراً من دولة الأبارتايد والتطهير العرقي، وللأسف أيضاً من كل من يخذل الناس بفئويته التي لا هم لها سوى لوم الضحية، أو تعويم المجرم الحقيقي.

مثل هؤلاء وغيرهم من آلاف الحكايات التي سيوثقها الأدب والرواية الفلسطينية لتكون شاهداً على جيل لم ينتظر إطباق مخالب نكبة جديدة، بل قرر أن يقاومها بأظافره وأسنانه، كي يمنعها، ويصنع مع الناس حكاية شعب لا يُمكن أن يهزم. وأظن أن هؤلاء لم يعودوا يكترثوا كثيراً بترف الحوارات وتدوير زوايا اللغة، في ماراثون ممتد منذ أكثر من سبعة عشر عاماً، وقد دفع ثمنه غاليًا من دم ودمار في ظل هذه الإبادة المستمرة.

لعل ما يجب قوله: "أن أهل غزة، ومعهم كل شعب فلسطين، لن يرددوا مقولة أكلتم يوم أكل الثور الأبيض". فستظل غزة رافعة الوطنية الفلسطينية، وقلب حركتها الوطنية، تورث دروس تجربتها الحية، أن الوحدة طريق النهوض والخلاص من الظلم والاحتلال، ولن تضللها أية محاولات لاستثمار ألمها لأغراض أنانية، فغزة الغارقة في ألمها لن تغرق في البحر أو في تيه الصحراء.