"ننفذ تطهيرًا عرقيًا في شمال قطاع غزة، فلم تعد هناك بيت لاهيا، أو بيت حانون، فهناك ترتكب جريمة حرب وما قلته يعكس الدعوات إلى تقليص عدد سكان قطاع غزة وعودة الاستيطان إلى هناك، إنني أتحدث نيابة عن أشخاص خدموا في شمال غزة. فهناك ترتكب جرائم حرب".

ما بين مزدوجين أعلاه، إقرار، بثه على الهواء مباشرة، موشيه يعالون، وزير الحرب الأسبق لدى منظومة الاحتلال (إسرائيل) في لقاءين أحدثهما، عبر هيئة البث الإسرائيلية، المعروفة باللغة العربية (مكان).

لا نريد الولوج هنا إلى نوايا يعالون، ولا دوافعه السياسية، رغم أهميتها، لتقدير الهدف مما نطق، وأبعاد شهادته التي قد تكون بالنسبة لنا مستندًا هامًا، يُضاف إلى ملف محاكمة (دولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية "إسرائيل") لدى المحكمة الجنائية الدولية، بعد ثبوت ارتكاب جيشها جرائم حرب وإبادة وضد الإنسانية، فشهادته التي كررها مرتين بإصرار خلال أقل من 48 ساعة، تبين مستوى التخوف على مستقبل "إسرائيل" المرتبط مصيرها بدوام إقناع العالم بالدعاية الخديعة: "إن إسرائيل واحة الديمقراطية، في صحراء الدكتاتوريات، وإنها تدافع عن الحضارة الغربية".

ونعتقد أن تصريحات يعالون تمنحنا اعترافًا مهمًا، بتأثير تطبيقات منهج النضال السياسي والدبلوماسي المتوج بالقانوني في المحافل الدولية، ومنظمات الأمم المتحدة، ومنها المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك محكمة العدل الدولية، الذي صممه الرئيس محمود عباس "أبو مازن" رئيس دولة فلسطين وقائد حركة تحرر الشعب الفلسطيني الوطنية، ومضى متسلحًا بالحكمة والمعرفة، والشجاعة، ومتمسكًا بالثوابت الوطنية الفلسطينية، لكشف مرجعيات سياسة (إسرائيل) العنصرية، وجرائم ساساتها وجنرالات وضباط وجنود جيشها ضد الإنسانية، ولتبديد هالة الديمقراطية، التي استخدمتها كغطاء، للتمويه على مجازر ومذابح وحملة إبادة دموية بحق الشعب الفلسطيني، ما يعني أن النضال الفلسطيني العقلاني، الواقعي، المسنود بالمعرفة والبصيرة، والرؤى الخلاقة، سيبلغ أهدافه، عبر تكسير أقوى قواعد الارتكاز (الوهمية) التي أنشئت عليها دولة إسرائيل، وهي (الديمقراطية)، لذا قال يعالون: "أنا مطالب بإطلاق التحذير مما يجري، فهناك جرائم حرب ترتكب، ولم يسبق أن مثلت دولة ديمقراطية أمام المحكمة الجنائية في لاهاي".

فاجأ يعالون المجتمع السياسي الإسرائيلي، فصاحب الإقرار - الشهادة كما يجب تسميتها -  وزير حرب سابق، نفذ سياسة دولته بامتياز، لكنه لم يفاجئنا من حيث رؤيته بعيدة المدى، ومن خشيته على مصير إسرائيل، إذا انهارت مبررات الدول الاستعمارية القديمة والحديثة لدعمها، وتمييزها، فقبل عشرة أيام، كتبنا مقالاً هنا تحت عنوان: "عدالة الأمم الحضارية تطال مجرمي حرب تقنعوا بالديمقراطية" نذكر ببعض فقراته ومنها: "حاكم الدولة الديمقراطية المطبق لمبادئها وقيمها لا يسقط في دائرة الهمجية التي تحوله لمجرم حرب، ومجرمًا ضد الإنسانية، أما العنصري المتخفي بقناعها، والمستتر بمظاهر معينة من سلوكيات الديمقراطية، فسرعان ما تنكشف أصوله، وبنيته، وتنفضح مفاهيمه المخالفة منطقيًا والمتعارضة واقعيًا مع معيار الإنسانية".

ثم كتبنا: "المقدسات في الأصل حضارية، والحضارة مبادئ وقيم مقدسة تتبناها كل شعوب وأمم الأرض، لذلك لا يمكن لأحد اختراقها، لتمرير وشرعنة وتبرير الجريمة ضد الإنسانية، لذا يجب فحص مدى التحريف والتزوير في مقدسات كل من يحاول اختراقها، وينطبق الأمر على الديمقراطية".

رغم أن يعالون لم يتحدث عن حق الشعب الفلسطيني بقيام دولته المستقلة، أو عن سلام  يحقق الاستقرار المستدام، لكن شهادته (الدقيقة) ربما تصبح خطابًا، يحفز العقل الفردي والجمعي الإسرائيلي، للتوجه نحو مراجعة تاريخية، لوضع النقاط على حروف جريمة الدول الاستعمارية، التي استخدمت المنظمة الصهيونية، لتضليل اليهود من شعوب الدنيا، وزجهم في دوائر الحروب والمذابح والصراعات، والتعقل والتفكير واستخلاص العبر، حتى بلوغ القناعة، بأن اليهودي الذي عانى من حملات الإبادة، لا يحق له أبدًا ممارستها على الشعب الفلسطيني ولا على أي إنسان آخر.