يستحق الإنسان سمة المناضل ما دامت القيم الأخلاقية الإنسانية ناظمة لمبادئه السياسية، ورؤياه لقضايا الحياة وضابطة لسلوكياته، وأعماله، وما دام خليطًا متجانسًا من العقلانية والأحاسيس والمشاعر والإدراك والوعي، لا يمكن فصل أي منها عن الأخرى، وإلا ستتفكك هذه الشخصية، وتنتفي عنها السمة أو ما شابهها مثل (المجاهد) وغيرهما من المصطلحات التي يراها البعض منسجمة مع مرجعه الفكري والثقافي.

العقلانية السياسية عاطفية، بمعنى توفر أعلى درجات الاحساس وإدراك مشاعر ومتطلبات الحياة الكريمة للإنسان، وبدون هذه العاطفة يهبط الإنسان إلى دائرة البشرية التي لطالما اعتمدت القوة البدنية والمادية فقط للفوز في الصراعات التي غلبت عليها الهمجية الدموية، بغض النظر عن الأسلحة المستخدمة في كل عصر، أما أبرز ميزة للعقلانية السياسية، فهي قدرة العقل الإنساني العاطفي على إجراء حسابات دقيقة، وقراءات متعددة، تطال كل زاوية من دائرة الحياة، وتبدأ الكارثة بالنيل من المؤمنين بهذا المنهج، عندما يمنحون زاوية دون الأخرى 99% من التفكير والجهد والتطبيقات العملية، وهذا ما يحدث تمامًا لدى الأشخاص والجماعات والأحزاب الذين يتبنون مفاهيم متعصبة، محدودة التعداد البشري، والجغرافيا الطبيعية، فترى نتائج أفعالهم وأعمالهم قد ارتدت عليهم بالدمار والدماء المسفوكة كالأنهار. وهنا ينشغلون عن التفكير والمراجعة، بابتداع صور إنجازات وانتصارات وهمية، وإغراق مجتمعهم الخاص، وكذلك المجتمعات المحيطة بطوفان الأوهام، والوعود الخرافية، أما أسوأ ما يحدث في مثل هذه الحالات، فهو تفريغ المصطلحات من معانيها الحقيقية بمعانٍ لا يمكن لعاقل وذي معرفة قبولها أو مجرد التفكير بالتعامل معها، لأنها في أصلها مضادة للمنطق، والوعي، والإدراك بكل الوقائع والحقائق التي أوصلتها حواس الإنسان إلى عقله، بقوة دفع الأحاسيس والمشاعر النبيلة، المتولدة من الطاقة الإيجابية أو السلبية الناتجة عن الحدث في لحظته، وعن القراءة المتأنية الدقيقة لتداعياته، والتي لا تكلف العاقل الكثير من الوقت لاستنتاجها، وبلوغ الخلاصة، لكنها عصية على المتعصب، والمتطرف، الذي يعتبر التعقل والعقلانية الإنسانية نقيصة، لأن أحاسيسه ومشاعره الإنسانية، قد تبخرت من شدة حرارة نيران الأسلحة، والصراعات والحروب والحملات الدموية، التي رآها سبيله الأوحد لإرضاء رغبة سلطان القوة اللاأخلاقية المستوطنة في نفسه، والمتحكمة بنظرته للحياة، وبكل أفعاله، فيمضي معاندًا حتى لو كان هلاكه الشخصي، الفردي، وهلاك مجتمعه المحدود، قد تُبدَى له أمام عينه بصورة ما مقنعة.

وهنا في هذه اللحظة الفارقة، تفور وتختلط الأمور عند هذا الذي اغتال أحاسيسه ومشاعره (عاطفته) بيديه، فيداهم في كل الاتجاهات كالنمر الجريح أو الديك المذبوح، كآخر محاولة لإثبات ذاته، ولمنع فكرة الإقرار والمراجعة والاعتراف بالخطيئة (الجريمة) من دخول النطاق الحسي لكيانه البشري، فهذا قد برمجت ذاكرته على رفض الفكرة، باعتبارها فايروسًا ستضرب تلافيف دماغه، الحافظة لمفاهيمه المعلبة المرفوعة سلفًا منذ لحظة التأسيس التي قد لا تحسب بمعايير الساعة واليوم والسنة، بقدر ما تحسب معيار القبول دون المرور على زاوية التفكير، والتأمل والتفكر والحوار مع الذات ومع الآخرين، ومن باب يطل على عالم الإنسانية المتحضرة المتمدنة، أو المرور على مركز التنوير في العقيدة التي يدعي الانتماء إليها، سواء كانت سماوية روحية أو فلسفة إنسانية أو نظرية سياسية، نبيلة الأصل، فالخطر الأفظع يكمن في اليوم التالي لثبوت عدمية مفاهيم القوة المادية المجردة، وإمكانية انتصار المحدود مفاهيميًا، وتعبويًا، وجغرافيًا وبشريًا، على الإنسانية التي كانت وستبقى بلا حدود. فالعقل الإنساني العاطفي لا يفكر بالانتصار، بقدر ما يفكر بكيفية تحرير البشرية أفرادًا وجماعات وأحزابًا وشعوبًا، من عقدة اعتبار العقلانية العاطفية، والواقعية، والمنطق العلمي، والحسابات المعرفية ترفًا.