يقولون في الشارع الفلسطيني، خاصة في الشارع الغزاوي الذي أعيش فيه وأتابع ايقاعاته النفسية والسياسية والاجتماعية، يقولون أين هي المصالحة ما دامت الاستدعاءات ما زالت تجري على قدم وساق، والاستدعاءات كما هو معروف هي الشبكة التي يتم من خلالها صيد الاعتقالات!!
كما يقولون:
أين هي المصالحة ما دام الذين ينطبق عليهم وصف الاعتقال السياسي لم يخرج منهم أحد!! وما دام الذين ينتظرون جوازات سفرهم لم تصلهم هذه الجوازات!! وما دام القتلى في قبورهم لم تهجع أرواحهم بعد لأنه لم يبت في حرمة دمائهم بعد!! وما دامت الغمزات واللمزات الجارحة موجودة في صلب الاعلام الداخلي الفلسطيني!! وما دامت الوفود بين فتح وحماس وبقية الفصائل تذهب الى القاهرة وتتحاور وتظهر الصور على شاشات الفضائيات، ولكنهم حين يعودون من هذه الحوارات التي كانت أخبارها متوهجة بالفرح، نراهم عائدين الينا وهم غارقون بالكآبة مثلما كان الحال قبل أن يذهبوا!! معلوماتهم مجرد انطباعات، واجاباتهم غير مؤكدة، ومنظوماتهم الكلامية هي نفسها التي يلوكونها طوال سنوات الانقسام!! وحين نسألهم عن الضمانات والتأكيدات والخطوات تكاد أبصارهم تزوغ من شدة الاحراج، ويتضح أنهم لا يعرفون!! فمن الذي يعرف اذا؟
الحقيقة:
أنه على مستوى التصور السياسي، فقد حدث تطور كبير جدا على صعيد المصالحة، وأن كلام التوافق الذي سمعناه على لسان الأخ الرئيس أبو مازن وعلى لسان الأخ أبو الوليد خالد مشعل يكاد يصل الى حد الانقلاب!! ويكفي أننا لم نعد نسمع تلك الكلمات النمطية المترادفة عن الاعتدال وعن الممانعة!! وهذا أمر طبيعي، لأنه في المنطقة المحيطة بنا – تحت سقف هذا الاعصار الذي يطلق عليه اسم الربيع العربي – انهارت هياكل الاعتدال وانهارت هياكل الممانعة، والذي يتشكل الآن ولم تكتمل ملامحه بعد هو شيء جديد، بمعايير جديدة، برؤى وأهداف جديدة، وبالتالي فإن الجدران القديمة التي كان يستند اليها أهل الاعتدال وأهل الممانعة لم تعد قائمة.
وانعكس ذلك بشكل موضوعي وصادق وعميق في اللغة التي تحدث بها الأخ الرئيس أبو مازن والأخ أبو الوليد خالد مشعل، وهي لغة مسؤولة وشجاعة، نتج عنها هذه السلسلة من الاتفاقات النوعية التي جسدتها اللجان الست وعلى رأسها اللجنة القيادية العليا لمنظمة التحرير، التي لم تبق أحدا خارج فناء البيت الوطني الفلسطيني.
أذكركم أن هذه اللجنة سبق أن تم اقرارها في اتفاق القاهرة بين الفصائل في آذار 2005، ولكنها طيلة تلك الفترة لم تر النور، ولكن في هذه الأيام بات الايقاع الموضوعي السريع، رأيناها تتشكل وتجتمع وتمارس أولى صلاحياتها باعتماد ما صدر من قرارات في حوارات الأيام الأخيرة. فلماذا يبقى هذا الهجوم والاحباط والتشاؤم الذي يبخه أعضاء الفصائل على جموع الشعب التي هي بحاجة الى القليل من الأمل؟
ربما يكون السبب، أن الفصائل في حد ذاتها – ولا أستثني أحدا – بحاجة الى اعادة تأهيل ذاتي، لأنها أدمنت عجزها واحباطها، واستسهلت قاموسها الذي تعودت عليه، وهي لا تستطيع أن تتغير، لان التغير ليس مجرد كلمة، بل هو منظومة كاملة!
هناك رعب من قبل الفصائل من امكانية الخروج من تحت عنوان الانقسام الى عنوان المصالحة!! انه رعب يذكرني بالرعب الذي سيطر على العديد من الأوساط السياسية والحزبية في لبنان وسوريا قبل وبعد الانسحاب الاسرائيلي أحادي الجانب من لبنان عام 2000، أصحاب المقاومة خافوا وقالوا لأنفسهم:
تحت أي بند سنقاوم بعد الآن؟ وأصحاب التدخل خافوا وقالوا لأنفسهم تحت أي بند سنتدخل بعد الآن؟ وهكذا بقية الأطراف الأخرى بعناوينها المختلفة.
اليوم في الساحة الفلسطينية:
نبكي بدموع حارة طلبا للمصالحة، حتى اذا جاء أوانها، واكتملت شروطها، وأعلنت اتفاقاتها، نرى هذا الهجوم والتخوف والحذر الشديد بل نرى أنه في داخل الفصائل الفلسطينية نفسها، بأن كل من له مخاوف يستنفرها الى أقصى مدى، الجهات والأجهزة الأمنية تتشبث بحيثيات الانقسام، ولذلك نرى حجما من الاستدعاءات في الشهر الأخير أكبر من كل ما رأيناه في السنوات الماضية!! عجيب، والله انه أمر عجيب، كما لو أن الاستدعاءات متعة لا تعوض ويريد أصحابها أن يشبعوا منها قبل أن تتوقف نهائيا!! بل ان مقولات التشاؤم لدى بعض أقطاب الفصائل وصلت ذروتها، وخطاباتهم التصعيدية رددها الصدى، وشكوكهم تكاثرت بسرعة مثل تكاثر الفطريات.
هؤلاء لا يتغيرون من تلقاء أنفسهم، انهم عاجزون عن التغير، اعتادوا على الانقسام، بعضهم بنى له بيتا فوق رمال الانقسام أو فوق موج الانقسام أو فوق أوهام الانقسام، ويخاف أن يتهاوى البيت مثلما تتهاوى بيوت العنكبوت.
الذين يقودون المصالحة للأسباب التي نضجت لديهم، أصحاب القرار، يجب أن يفهموا هذه الحالة، ويعملوا على كسر حلقاتها الجهنمية من خلال الاسراع في ارساء خطوات ناجزة على الأرض، الآن مثلا لو اتفقنا على أن عدد المعتقلين السياسيين الفعليين الذين ينطبق عليهم التوصيف الصحيح هم خمسون معتقلا فقط، وتم الافراج عنهم، فإن هذه الخطوة البسيطة سوف تخلق يقينها في أوساط الناس، وسوف تجعل المتوجسين والمتشككين يتوقفون عن ذلك.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها