قد يفكر البعض أن الحركات القومية العربية انطلقت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتنهض بأمة عريقة طال احتلال أراضيها وسيمت العذاب وأجبرت على الانغماس في التخلف و الجهل بعيدا عن عراقتها في الثقافة والعلم والتقدم .
لكن الواقع كان غير ذلك ، فقد اكتشفت الطلائع القومية الواعية بعد المخطط الاستعماري الجديد الذي اطل على بلاد العرب بأشكال جديدة منها الأحلاف و الإلحاق الاقتصادي وتحديد سقف التعليم والعلم و إغراق الأسواق ببضائع الغرب ووضع السدود أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي للعالم العربي .
وأدركت الطلائع أن المخطط الاستعماري يستهدف إبقاء الأمة العربية مفككة غير موحدة ، ولا تتحكم بثروات البلاد الطبيعية ولا ببناء المجتمع الجديد ولا برسم سياسة تنمية اقتصادية تتيح المجال لخلق بنية اجتماعية قابلة للتبلور والتطور .
واستوعبت الطلائع ان مشروع القوى الاستعمارية لبناء قاعدة استيطانية أمامية ( على نسق جنوب إفريقيا ) تحمل اسم إسرائيل ، كان مفصلا حيويا في هذا المخطط الذي ما زال يتحكم برقاب العرب .
بدأ القائد القومي الريادي أنطوان سعادة بإطلاق التنبيه وقرع ناقوس الخطر الذي تتعرض له الأمة العربية بأسرها وركز على المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين ( إقامة دولة يهودية لتكون قاعدة أمامية للاستعمار الجديد في بلاد العرب).
لكن الاستعمار البريطاني الذي عهد له بالانتداب على فلسطين منذ بعد الحرب العالمية الاولى ، كان مستمرا في تهيئة كافة الظروف اللازمة لإقامة هذه القاعدة الاستعمارية الأمامية . ( وذلك من خلال تدريب وتسليح جماعات صهيونية هدفها طرد الفلسطينيين بالقوة المسلحة من أراضيهم وإقامة مستعمرات صناعية وزراعية لتكون أساسا لدولة اليهود على ارض فلسطين .
في العام 1948 وبعد نضال تحرري طويل بدأ في العشرينات ( بعد وعد بلفور 1917) أقامت الدول الاستعمارية دولة إسرائيل . وكأن الإصرار والدعم لإقامة هذه الدولة من قبل الدول الاستعمارية . الاستعمار الجديد ، مدعوما بالترغيب والتهديد لدول العالم .
وقادت الإدارة الأميركية عمليات الترغيب والتهديد هذه مخالفة بذلك الدستور الأمريكي والشرائع الدولية والأسس التي قامت عليها عصبة الأمم والأمم المتحدة.
وفي العالم العربي تحول موضوع الاحتلال الاستيطاني لفلسطين مهمة رئيسية للحركة القومية ، فكانت فلسطين القضية تشكل جوهر البرامج للحركات القومية ، التي نشأت بقوة بعد عام 1948 ، وتمحورت برامج هذه الحركات حول الوحدة العربية طريقا لتحرير فلسطين .
جورج حبش ، الذي كان يدرس الطب في الجامعة الأميركية ببيروت ، رغم وعيه لما يحاك للأمة العربية وللشعب الفلسطيني، هزته نكبة الشعب الفلسطيني ودفعته للانتقال من البحث السياسي والفكري حول سبل ووسائل إنهاض الأمة العربية إلى العمل الفعلي .
فقد أصبحت قضية فلسطين قضية قومية ملموسة لابد من التعامل معها بشكل محسوس وملموس سياسيا وتنظيميا و عسكريا .
وتحولت النقاشات التي كان يديرها الدكتور جورج حبش مع مجموعة مختارة من الطلبة العرب في الجامعة الأميركية ، من الإطار النظري إلى الإطار العملي .
الإجابة على السؤال الذي فرض نفسه : ما العمل ؟ .
منذ أن التحق جورج حبش بالجامعة الأمريكية ببيروت ، وجد نفسه ضمن مجموعة من الشباب الذين قصدوا الجامعة الأمريكية للدراسة من بلدان عربية مختلفة .
وكان بين هؤلاء طلائع واعية تشارك جورج حبش هموم الأمة وسبل إنهاضها .
فساروا على نهج أرساه في الثلاثينات رعيل من الشباب العربي درس في الجامعة الأمريكية وأسس جمعية ثقافية عربية سميت " العروة الوثقى " . وكان احد مؤسسيها وراعيها البروفسور قسطنطين زريق .
وتحت يافطة الثقافة العربية تداول ومناقشة الأوضاع السياسية العربية .تركز بحث الشباب على أهمية وضرورة الوحدة العربية لنهوض الأمة استنادا لما تملكه من طاقات بشرية واقتصادية متمثلة في الثروة الطبيعية الهائلة .
ولا شك ان العامل المشترك الجامع بين الأنظمة التي عينها الاستعمار الجديد كان كونها جسر هذه القوى الاستعمارية لإبقاء الأمة العربية رهن التخلف ولنهب ثرواتها . ورأى الشباب أن العمل ضد هذه الأنظمة هو شرط ضروري من شروط مواجهة الاستعمار الجديد وتحرير الأمة والنهوض بها ودخول عصر جديد من الحرية والديمقراطية لبناء مجتمع قابل للتبلور والنمو والتقدم .
( فقد كانت الجزائر محتلة من الفرنسيين واليمن الجنوبي من البريطانيين وبقية الدول العربية ترزح تحت ثقل القواعد العسكرية الأجنبية المفروضة على أراضيها.
كان جورج حبش متحمسا ومندفعا لخوض معركة تحرير الأمة وبث في زملائه نفس الروح المتوقدة .فهدف الحرية كان هدفا ثمينا وغاليا وكان بالنسبة له ولزملائه الطريق الذي لابد من السير فيه لتحرير ما استولى عليه من ارض العرب في فلسطين ، وما زرع فيها من قاعدة عسكرية تهدد وستهدد للأبد مستقبل الأمة العربية وتدمر فرص نهوضها ونموها واستقلالها الاقتصادي والسياسي .
وبعد نكبة فلسطين رأى الشباب وعلى رأسهم الدكتور جورج حبش ان هدف الحرية والوحدة أصبح أيضا شرطا ضروريا لاستعادة فلسطين وإعادة ما استولى عليه منها لجسم الأمة العربية .
كان الجميع ملتفين حول هذه الرؤية وأهدافها .وقرروا تأسيس حركة عربية أطلقوا عليها اسم " حركة القوميين العرب "وعاد كل شاب إلى موطنه في العالم العربي ... ليبدأ العمل استنادا للرؤية المتفق عليها وسعيا وراء أهداف الحرية والتحرر والوحدة .وكان ترتيب ذلك حسب الأولوية وحدة تحرر وتحرير .
وتمكنت حركة القوميين العرب من الانتشار في أوساط الجماهير العربية بسرعة اذ كانت شعاراتها وأفكارها نابعة من مشاعر الجماهير وآمالها وطموحها لنيل الحرية والاستقلال وإنهاض المجتمع العربي وتطويره .
كان جورج حبش وقيادة حركة القوميين العرب ( اللجنة التنفيذية ) يعيشون آلام الجماهير وأحاسيسها ويعملون لتحريرها . وهذا ما كانت تريده الجماهير من قياداتها .
في الميدان القومي والثوري كان جورج حبش اكثر المتحمسين للعمل المنتج وكان دائما يقول : " يجب ان ترى الجماهير صدقنا من خلال عملنا ونتائج عملنا . واننا لا نكتفي بالكلمة والشعار بل نمارس العمل الثوري ".وكان الحكيم وزميله وديع حداد أول من طرحا الكفاح المسلح طريق الشعب للحرية .
كتائب الفداء القومي ، شباب الثأر و أبطال العودة
أطاح جمال عبد الناصر بالنظام الملكي في مصر وكان هذا نصرا كبيرا بث مزيدا من العزم والتصميم في صدور شباب حركة القوميين العرب .وجاء تأميم قناة السويس رافعة جديدة للحركة القومية التي تاجج حماسها في ضوء العدوان الثلاثي الإسرائيلي الفرنسي البريطاني على مصر واحتلال قناة السويس . فقاتل الشعب المصري دفاعا عن ارضه وحريته وهبت الجماهير العربية بقيادة حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي في كل مكان دعما لمصر ولشعب مصر . وكانت قمة الفرحة القومية يوم أعلنت وحدة مصر وسوريا في دولة واحدة . وكان هذا إنذارا بالخطر لكل القوى الاستعمارية التي بدأت ترى في الحركة القومية خطرا على مصالحها ذا أبعاد إستراتيجية خطيرة عليها وعلى قاعدتها الأمامية إسرائيل .
وقاد جورج حبش التيار القومي العربي من خلال قيادته لحركة القوميين العرب . ولعبت الحركة دورا هاما وبدأ العمل الجاد لتحرير الأمة في أوطانها . فلعب دورا أساسيا في ثورة العراق في العام 1958 وكان عبد السلام عارف احد الرموز القومية التي سارت في نهج التحرر من الاستعمار . فانهار النظام في العراق وضعفت رموزه .
وفي العام 1959 طرح وفد من حركة القوميين العرب فكرة الشروع في الكفاح المسلح لتحرير فلسطين ، فكان جواب عبد الناصر ايجابيا من حيث ضرورة الإعداد تدريبا وتسليحا ولكن دون الشروع في العمل لأن أمام مصر فترة زمنية لابد من قطعها لإعداد جيشها .
وبدأ التدريب في معسكر للفدائيين في بلدة حرستا السورية في العام 1959 وشكلت اول كتائب للفداء القومي . واستمرت حركة القوميين العرب بقيادة جورج حبش في عملها الجماهيري والسياسي في الوطن العرب . فنشطت فروعها في الجزائر والمغرب وليبيا لدعم الحركة التحررية الجزائرية .ونشط فرعها اليمني للإعداد لمكافحة الاستعمار البريطاني . ونشط فرعها الكويتي في معركة بناء الديمقراطية. وهكذا .
وفي العام 1964 ومع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عقدت اللجنة التنفيذية للحركة برئاسة القائد جورج حبش دورة هامة مفصلية وذلك في بيروت العاصمة اللبنانية . وبحثت اللجنة التنفيذية أخر التقارير المعدة حول الكفاح الجزائري والوضع في العراق والتحضير للكفاح المسلح في جنوب اليمن والأوضاع في ليبيا.
وقام قحطان الشعبي قائد فرع اليمن الجنوبي بتقديم اقتراح ببدء الكفاح المسلح في جنوب اليمن ضد قوات الاحتلال البريطانية . فنوقش ، واقر بعد ان قدرت اللجنة التنفيذية الاحتياجات العملية لاستمرار الكفاح حتى خروج قوات الاحتلال البريطانية . اما على الصعيد الفلسطيني فقد قررت المساهمة في منظمة التحرير الفلسطينية عبر عضوية اللجنة التنفيذية . وفي العمل العسكري من خلال جيش التحرير الفلسطيني ودعوة الشباب الفلسطيني للانخراط في الكليات العسكرية . وكان من هؤلاء فيصل الحسيني الذي التحق بالكلية العسكرية في حلب وباسم مبارك وغيرهم .
وقد شكلت حركة القوميين العرب التنظيمات المقاتلة التالية :
1- شباب الثأر وهو تنظيم لشباب الحركة الجاهزين لشن عمليات ضد اسرائيل .
2- ابطال العودة : وهو تنظيم مسلح مكون من فدائيين ارتبطوا عمليا و تسليحا وتدريبا بجيش التحرير الفلسطيني ولكن ارتباطهم التنظيمي كان بحركة القوميين العرب وكان على رأسهم الحاج فايز جابر والحاج صبحي التميمي .
وقررت اللجنة التنفيذية لحركة القوميين العرب تقديم الدعم البشري والسياسي والمادي لثورة الجزائر .
واشتعل القتال في جنوب اليمن والتهبت عدن وابين ويافع والضالع وكل جبال اليمن ، وكانت معركة مزدوجة فمن ناحية كان المقاتلون يهاجمون مواقع ومعسكرات قوات الاحتلال البريطاني وفي الوقت ذاته يحاربون قوات السلاطين العملاء للاستعمار الانجليزي .
وبرز قادة ميدانيون الهبوا الجماهير حماسا امثال " سالمين " و " عنتر " و " فيصل " و " مطيع " وانتصرت ثورة اليمن وخرج المحتلون البريطانيون من عدن ورفعت راية الحرية على باب المندب .
واعتدت اسرائيل توسعيا عام 1967 واحتلت سيناء والجولان السوري والجولان الفلسطيني والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة .
وساد الظلام ... ظلام الهزيمة وشعر العرب بالمهانة واحتقنت الأجواء . وازداد حقد العرب الدفين على المستعمرين واعوانهم وقاعدتهم الأمامية إسرائيل . وتنادى مرة أخرى قادة حركة القوميين العرب للاجتماع في بيروت .
فالتأم عقدهم في تموز من العام 1967 لبحث الهزيمة وأثارها وسبل الرد عليها .
كان ظلام هزيمة خطيرة ... كان لابد من طريق لكسر الظلام وبزوغ نور الحرية من جديد .
في اجتماع اللجنة التنفيذية لحركة القوميين المنعقد في بيروت في تموز 1967 اتخذ قرار إنشاء تنظيم مسلح فلسطيني من ابناء حركة القوميين العرب الفلسطينيين، وان تدعم اقاليم حركة القوميين العرب كفاحهم المسلح ضد المحتلين.
وتقرر ايضا ان يكلف الدكتور جورج حبش الأمين العام لحركة القوميين العرب برئاسة هيئة من اختياره لإنشاء هذا التنظيم والشروع في العمل القتالي ضد الاحتلال .
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
بدأ جورج حبش بتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في اواخر العام 1967 .
وكان قد اوكل لعدد من مساعديه مهمات تحضيرية كالتدريب وتجميع الكوادر من اقطار مختلفة والتفاوض مع سوريا لفتح معسكر تدريب . وكذلك عهد الى الدكتور وديع حداد المهمة العسكرية برمتها . وقام الدكتور وديع حداد بالاتصالات اللازمة لخلق البنية التحتية اللازمة وكنت انا من ضمن المجموعة التي ساهمت في عملية التأسيس وكان عملي يتطلب التنقل بين بيروت ودمشق وعمان وتدفق مئات الشباب الجامعي والمثقف من ابناء حركة القوميين العرب الى بيروت .. حيث كان جورج حبش يقود عملية انشاء التنظيم المسلح ليقاتل ضد الاحتلال الاستيطاني من مكتبه كأمين عام لحركة القوميين العرب وفي الوقت ذاته مقرا لدار " الفجر" للنشر التي كانت تملكها حركة القوميين العرب .
انهمك الحكيم في كتابة تقرير سياسي ليكون اساس النقاش في اول مؤتمر يعقده التنظيم الفلسطيني الذي انشأته حركة القوميين العرب .
وفي الوقت ذاته كرس القائد جورج حبش جزءا كبيرا من وقته لمباحثات فلسطينية فلسطينية تستهدف توحيد المنظمات الفلسطينية المسلحة والتي رفعت شعار الكفاح المسلح خارج اطار منظمة التحرير الفلسطينية .
محوران هامان اخذا من جورج حبش معظم وقته .
وتضمن التقرير الاول مقدمة نقدية حول الاوضاع الرسمية العربية التي سادت قبل هزيمة عام 1967 . وذلك بعد ان حددت الدراسة بوضوح معسكر اعداد الشعب ومعسكر اصدقائه . وخلصت الى ان حرب التحرير الشعبية طويلة الامد هي طريق الجماهير لتحرير الارض من المحتلين وان الحرية والديمقراطية هي التي ستساهم في اتاحة المجال للشعب بان يختار طريقة ويقرر قيادته ومصيره .
وشمل التقرير تحليلا لاسباب هزيمة الانظمة الوطنية وحدد ان تهميش دور الطبقات المسحوقة والاعتماد على البرجوازية الصغيرة كان سببا جوهريا في هزيمة الانظمة الوطنية .
وكان هو تقرير الذي طرح في مؤتمر الجبهة الشعبية الاول في شهر اب 1968 بغياب القائد جورج حبش الذي كانت السلطات السورية قد اعتقلته بتهمة التحضير لانقلاب عسكري في سوريا .
اما المحور الثاني وهو محور مفاوضات وحدة اداة الثورة فقد تمحور حول البرنامج الذي يمكن ان تلتقي عليه التنظيمات المقاتلة وكيفية اختيار قيادة الحركة الموحدة ديمقراطيا .
الا ان عدم وجود (وحدة حال ) داخل صفوف حركة فتح وعدم بروز قوة قادرة على تشكيل ثقل مقرر ادى الى فشل هذه المفاوضات وخرجت فتح من اطار المفاوضات وتوحدت صفوف ابطال العودة وشباب الثار مع جبهة التحرير الفلسطينية لتشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
وفي مؤتمر آب دب خلاف سياسي بين تيار ينادي بخط فكري سياسي اكثر تطرفا واكثر انحيازا للفكر الماركسي اللينيني ويعتبر ان البرجوازية الصغيرة سقطت كطبقة من صفوف النضال الوطني التحرري .
بينما تمسك الاخرون بفحوى التقرير الذي اعده الدكتور جورج حبش واعتبر فيه ان البرجوازية الصغيرة العربية الحاكمة في مصر وسوريا ما زالت ضمن الصف الوطني المعادي للاستعمار وتم الاتفاق على تشكيل قيادة مؤقتة تعد لمؤتمر جديد بعد اجراء انتخابات من القاعدة للقمة لاختيار ممثلي التنظيم للمؤتمر .وتم الاتفاق على عقد المؤتمر في شهر شباط من العام 1969 .
خلال ذلك وضع الدكتور وديع حداد خطة بارعة اختطفت خلالها الدكتور جورج حبش من سجانيه فيما كان مقادا نحو التحقيق من زنزانته في سجن حسين بدمشق . وتمكن بعد زيارة قصيرة للقاهرة التقى خلالها بالرئيس جمال عبد الناصر من الدخول للاردن بلباس ضابط عراقي .
في ذلك العام 1969 انشق احمد جبريل عن الجبهة الشعبية وعاد على راس تنظيمه جبهة تحرير فلسطين ولكنه اطلق على نفسه اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة - . وانشق نايف حواتمة وشكل الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين .
وراح جورج حبش وزملاؤه يعملون ليل نهار لاعادة اللحمة للتنظيم و لسد الفراغات وتصعيد العمل الكفاحي ضد الاحتلال .وكان على الحكيم ان يعالج كافة هذه المعضلات بما فيها معضلة الضربات التي وجهتها اسرائيل لتنظيم الجبهة داخل الارض المحتلة واعتقلت خلالها مئات من اعضائها الجبهة ومن ضمنهم قيادة الداخل .
كان على جورج حبش ان يعالج معضلات ومشاكل تنوء لها الجبال ومنها:-
• بناء الكادر الجديد وتثقيفه وتدريبه .
• رفع مستوى التدريب .
• تامين مصادر السلاح والذخيرة .
• الاشراف على اعادة بناء التنظيم داخل الارض المحتلة .
• وضع اسس جديدة للعمل داخل الارض المحتلة تقي التنظيم امنيا وتقي القواعد العسكرية من غارات العدو الجوية .
• تنشيط العلاقات القومية من خلال مهمته كمنسق بين أقاليم حركة القوميين العرب .
• متابعة وتحسين علاقات الجبهة الشعبية بالانظمة الوطنية خاصة مع مصر والعراق .
• رعاية الاحتفالات والمهرجانات الجماهيرية للحشد والتعبئة.
• تلبية ما هو هام من طلبات الصحافة والاعلام .
• الإشراف على عمل قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وكان للقائد جورج حبش في زملائه خير معين ،( وزملاء خاضوا معه نقلات مريره وذاقوا طعم السجون والتشريد والملاحقة ). فالجانب العسكري تولى مسؤولياته الهيثم الايوبي يعاونه اكرم صفدي ( سوريا ) .
وساهم الحزب الشيوعي العراقي في تثقيف الكادر عبر أساتذة درسوا الفكر والتكتيك والإستراتيجية .
وعلى الصعيد القتالي اندفعت مجموعات من الضباط العرب لخوض المعارك ميدانيا وقيادة فصائل المقاتلين، واستلم الدكتور وديع حداد العمل الخاص ، واستلم غسان كنفاني الإعلام .
وبدأت الآلة الضخمة تدور وتهدر وتحقق الانتصارات بقيادة الحكيم جورج حبش .
جورج حبش الإنسان ... في الميدان .
كان على جورج حبش الشاب المليء بالحيوية والتصميم مواجهة تناقضات لم يواجه مثلها قائد حركة تحرر . وكذلك كان على ياسر عرفات . فالساحة الفلسطينية ساحة معقدة سياسيا فمعسكر أعدائها يمتد من العدو المحتل إلى حلفائه و داعميه . يضاف الى ذلك كم هائل من الرجعيات العربية التي كانت ترى في الثورة الفلسطينية خطرا عليها وعلى مصالحها وليس في إسرائيل عدوا .
اما من ناحية التناقضات الداخلية فحدث ولا حرج . فقد كانت فكرة وحدة الأداة من أصعب الأفكار للتنفيذ . فقد رأى كل تنظيم في نفسه أهلية للقيادة . ورأى كل قائد من قادة التنظيمات بنفسه الأهلية لقيادة التنظيم . وفي ظل انتشار السلاح أصبح الأمر خطيرا . فالتناقض الداخلي تحول مرات عديدة إلى تناقض مسلح . كما حصل مع تنظيم طاهر دبلان و الهيئة العاملة لتحرير فلسطين ومنظمة فلسطين العربية وتنظيم احمد زعرور . لكن الصراع الداخلي التناحري اوصل الجميع الى نتيجة هي ان لاغنى عن الحياة الديمقراطية حتى في ظل البنادق . وقد لعب الحكيم جورج حبش دورا رائدا ورئيسا في ارساء هذه القاعدة داخل الجبهة وداخل صفوف المقاومة الفلسطينية، حصل هذا عندما منع مقاتلي الجبهة الشعبية اطلاق النار على احمد جبريل عندما انشق وصادر الاسلحة والذخائر من قواعد الجبهة الشعبية .
وكان ذلك واضحا عندما حمى بجسده نايف حواتمة بعد خروجه من اجتماع عاصف عقد في بيت ابراهيم قبعة في عمان وقرر خلاله نايف الانشقاق .
كان المقاتلون ينتظرون خروجه ليمطروه بالرصاص لكن جورج حبش عانقه حماية له حتى غادر المكان .
وكم من مرة تدخل لرأب الصدع بين ياسر عرفات وزملائه اعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح .
كان دائما يقول : حرية الرأي مصانة وحرية الموقف مصانة ولا بديل عن رضوخ الاقلية لرأي الاغلبية مع الاحتفاظ بحقها في التعبير عن رأيها وتوجيه الانتقادات والتظاهر لكن استخدام السلاح ممنوع لفرض رأي على الاخرين . كان من الذين ارسوا اسس الديمقراطية الفلسطينية . ولكنه كان شعله من نار عندما يصل الامر الى مواجهة العدو . فقد كان دائما مع اخضاع أي تناقض داخلي لمواجهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال .
جورج حبش دقيق يحب الاتقان والدقة
إنسان يحمل في عقلة وقلبه كل المبادئ السامية والراقية التي يمكن لعقل الإنسان وقلبه ان يحملها . يتألم لألم الاخرين ويفرح لفرحهم .
ويفعم قلبه الفرح لنجاة انسان او فرحه . كان يقف الى جانب الحق والعدل مهما كانت المؤثرات .
لا يهاب من شيء عند قول الحقيقة و لا يخشى احدا عندما يقاتل من اجل الحق .
وبهذه المبادئ التي تربى عليها امتلأ قلبه وعقله بالتصميم على العمل لاعادة انسانية الفلسطيني له وكرامة العربي وتحقيق العدالة في زمن ازهقت فيه العدالة وسحق الحق .
كان مقداما يمتلك القدرة على مخاطبة الجماهير بأبسط التعابير واكثرها تحريكا .
الدكتور جورج حبش كان لماحا ووقادا وسريع البديهة . امتلأ بحيوية المقاتل وعمل بدقة مبضع الجراح ، يقتحم عندما يضطر الى ذلك غير آبه بخطر او بموت يتربص به .
مقاتل صلب وعنيد – ومناضل لا يستسلم لليأس او الكابه يجترح من الحزن فرحا ومن الظلمة ضوءا ينير طريقه وطريق الاخرين .
حارب المرض حربا لا هوادة فيها وانتصر . اعاد صياغة قدرته على النطق والحركة والتفكير والكتابة والإبداع بعد ان هوت جميعها في غياهب المرض . وقاد الجميع مرة اخرى وفي احلك الظروف .
واجه مع المقاتلين شارون وجيشه ولم يثنيه عن ذلك شلل طرف من اطرافه . صمد كما صمد الابطال ولم يرف له جفن تحت وطأة القصف الاعمى . وتفوق على الجميع وتفوق على ما يشوب احيانا قادة عظام فاعلن عن تنحيه عن رئاسة الجبهة الشعبية مفسحا المجال للآخرين ليقودوا من بعده وليستمروا في النضال .
التقيته اخر مرة قبل وفاته في عيد الميلاد ودار بيننا حديث حول أوضاع فلسطين و النضال ضد الاحتلال . وكان كعادته يرى الفجر آ ت لا تهز قناعاته مصاعب او عقبات او إجراءات الاحتلال . وفي يومنا هذا كم نشعر بأنه معنا فكرا وروحا . وكم نفتقده بدرا ينير الطريق . وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. كان الحكيم رمزا قوميا ووطنيا ثوريا وسيبقى هكذا على مر السنين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها