عامٌ مضى وانقضى على أكثر عُدوان دموية في تاريخ بقعة جغرافية صغيرة على مرّ العصور، غزّة.
"الغازية المغزُوّة" الّتي غزت كُلّ حواسنا وجوارحنا، فلم تعُد العيون تروح إلّا لها، ولم يعُد القلبُ مُتيّمٌ إلّا بها، عامٌ قضى خلاله أكثر من أربعين الف شهيد نحبهم مُمتَطين جيادهم إلى جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، بعد أن أعادوا جريان العِزّة والكرامة في دماء الأُمّة، ولأنّهم ليسوا مُجرّد أرقام فحسب، فقد كان لِكُلِّ شهيدٍ وشهيدةٍ منهم قِصته.
فهذه أنامِلُ "ريم" ذات الربيع الثالث من عُمرها تُداعِبُ أنامِلَ جدّها "خالد" الّتي كانت بالنسبة له "روح الروح"، وهذه "هند" تلك الطفلة البريئة الّتي قطع العالم الحبل لوصالها لأكثر من عشرة أيّام، تستغيثُ برفقة قريبتها "ليان" بعد أن أمطر الرصاص سيارتهم، ليعود الاحتلال ويقصف المُغيث والمُستَغيث. وهذه أُمّ يوسُف تصِفُ طفلها لطواقم الإسعاف بالأبيضاني الحلو، ذي الشعر الكيرلي، لعلّ رُفاته لم تتحوّل لأشلاء. وغيرها الكثير من القصص الّتي لم يسلم حتّى مُوثِّقوها، فهذا الصحافي "وائل الدحدوح" يحثو التُراب على نجله "حمزة" آخر من بقِيَ لِشَدِّ أزره، ولسانُ حاله يقول قَول "البهاء زُهير" في رثاء ابنه "ليتكَ لو بَقيتَ لِضعف حالي.
عامٌ تعاقبت فيه الفصول ليُسقِط خريفه دُوَلاً تخاذلت، ويُزهر ربيعه دُوَلاً آزرت وتكاتفت. فبينما استخدمت دولة حق النقض وضد قرارات وقف إطلاق النار، فقد رأينا على النقيض دولة ترفع قضايا الإبادة ضد الكيان في وقفة مُشرّفة. فهل يستويان مثلاً؟ عامٌ تعددت فيه أماكن الموت والفاعل واحد، ليطال كُلّ دولة تُساند قطاع غزّة الجريح.
فكيف هان ما هان؟ وكيف عبِثتُم في آمالنا؟ كيف نسيتم ما كان؟ مع كُلِّ حرفٍ أنّنا نتألّم، على طفلٍ رضيعٍ من صوت الغارات يُفطَم، وأُمٍ ثكلى من نجلها تُحرَم، وبيتٍ فوقَ رؤوسِ ساكنيه يُهدَم. يغزونا شعورٌ بالعجزِ مُفعَم، مُنتَظِرين في بصيصٍ من الأمل أيَّ وَقفٍ للعدوان، لِيَفُكَّ كرب الآلاف مِمَّن أضحى مصيرهم مُبهَم، خُذِلوا من عالمٍ أبكَم، فسلّموا أمرهم لِربٍّ بقلّة حيلتهم أعلم وأرحم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها