سجل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش وغيره من أركان المؤسسات الأممية مواقف نبيلة وشجاعة في مواجهة الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية على الشعب الفلسطيني خلال الشهور العشرة الماضية، مما عرضهم لحملات تحريض واسعة ومغرضة من قبل حكومة بنيامين نتنياهو النازية، وتجلت في تمرير قانون بالقراءة الأولى في الكنيست باعتبار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" منظمة "إرهابية" يوم الاثنين الثاني والعشرين من يوليو الماضي، وهو سابقة خطيرة من قبل دولة مارقة وخارجة على القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي باتهام وكالة أممية معروفة بمصداقية وكفاءة موظفيها عمومًا في الالتزام بميثاق وأنظمة عمل الأمم المتحدة في تقديم الخدمات الإنسانية لأبناء الشعب الفلسطيني من اللاجئين، والتقيد بالحيادية، والابتعاد كليًا عن الانحياز لأي طرف من أطراف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
بيد أن بعض العاملين بوكالة "الأونروا" وقعوا في خطايا التساوق أحيانًا مع سياسات واتهامات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وكان آخرها خلال الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني بادعاء حكومة الائتلاف الحاكم النازي 12 موظفًا فلسطينيًا بالمشاركة في الهجمات المسلحة في السابع من تشرين اول / أكتوبر 2023 على غلاف قطاع غزة مع إسرائيل، نجم عن ذلك توقيفهم عن العمل من قبل المفوض العام للوكالة، فليب لازاريني، ثم تبين براءة أولئك الموظفين، وأعيدوا للعمل ثانية. غير أن قضية الادعاء الإسرائيلي الكاذب لم تنتهِ، وبقيت قضية التحقيق بشأن حملة التحريض الإسرائيلية الأميركية قائمة لدى مكتب خدمات الرقابة الداخلية التابعة للأمم المتحدة المكلف بالتحقيق في الادعاء.
وكانت إسرائيل اتهمت إثنا عشر، وليس تسعة عشر موظفًا، كما جاء في تقرير مكتب خدمات الرقابة الداخلية، من موظفي "الأونروا" بالمشاركة في هجمات السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي في نهاية العام الماضي، وطالبت الدول المانحة بالامتناع عن تحويل الأموال لها، وتحويلها لمنظمات أخرى تعمل في المجال الإنساني، بهدف تصفيتها، مما دفع عدة دول على رأسها الولايات المتحدة أكبر جهة مانحة إلى تعليق تمويل الوكالة، مما هدد جهودها بتقديم المساعدات الإنسانية في غزة، إلا أن كافة الدول تراجعت عن قرار عدم تمويل الوكالة، باستثناء أميركا.
ولم تنتهِ الأمور عند ما ذكر، حيث عاد مكتب خدمات الرقابة الداخلية لفتح الموضوع مجددًا بشأن الموظفين يوم الاثنين الخامس من آب/أغسطس الحالي، تمثل بإصدار مكتب المتحدث باسم الأمم المتحدة "فرحان حق"، بيانًا جاء فيه، أن نتائج التحقيق المتعلقة بموظفي "الأونروا" التاسع عشر، الذين زعم مشاركتهم في الهجوم المسلح توصلت إلى تبرئة عشر موظفين، وأما التسعة الآخرين حسب البيان الأممي "كانت الأدلة التي حصل عليها المكتب المذكور غير كافية لدعم الادعاء ضد الموظفين"، واستخدم صيغة "ربما شاركوا" في الهجمات، وسيتم إنهاء توظيف هؤلاء الأفراد خدمة لمصالح الوكالة؟ وبالتالي القرار بإنهاء خدمة الموظفين الفلسطينيين باطل، ولا يستند إلى الأدلة القاطعة ضدهم، وهو ما يعني الوقوع في خطيئة الحملة التحريضية الإسرائيلية الأميركية، التي لا تستهدف الموظفين، بقدر ما تستهدف وكالة "الأونروا" نفسها، التي اعتبرتها إسرائيل "منظمة إرهابية" بهدف تصفية الوكالة، وشطب ملف اللاجئين الفلسطينيين، أحد أهم أهداف الدولة العبرية ومن خلفها الولايات المتحدة على طريق تصفية القضية الفلسطينية كليًا.
ومع ذلك للمضي في التساوق مع الادعاء الإسرائيلي، ورغم معرفة خلفية حملة التحريض الكاذبة، قال المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة حق: "لدينا معلومات كافية لاتخاذ الإجراءات التي نتخذها، أي إنهاء خدمات هؤلاء الأشخاص التسعة"، وخلص للقول "أن المنظمة ستحتاج إلى تقييم أي خطوات أخرى للتأكد بشكل كامل" حسب ما ذكرت وكالة "فرانس برس"، وفي بيان منفصل بشأن التحقيق أعلن المفوض العام للأونروا فليب لازاريني إذا تم التحقق والتأكد من أدلة اتهام التسعة موظفين بالمشاركة في الهجمات، لا يمكنهم العمل في "الأونروا"، وسيتم إنهاء عقودهم. لكن "الهيئة 302 للدفاع عن حقوق اللاجئين" رفضت القرار الجديد، وأصدرت بيانًا استنكرت فيه، ورفضت قرار المفوض العام بطرد التسعة موظفين، واعتبرته قرارًا سياسيًا، ومخالفًا للإعلان العالمي لحقوق الانسان.
واعتبرته سابقة خطيرة من لازاريني، لأن قراره يخالف أولاً أحد بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يشير إلى أن المتهم بريء حتى تثبت أدانته، ويخالف التقرير الصادر عن وزيرة خارجية فرنسا السابقة، التي ترأست لجنة تحقيق مستقلة قبل تسعة أشهر، الذي اعتبر أن اتهام موظفين بالضلوع في هجمات تشرين أول/أكتوبر الماضي، هي اتهامات باطلة وافتقرت لأدلة دامغة، وقد أيد التقرير الأمين العام للأمم المتحدة، غوتيريش، وكانت نتائجه عدول الدول كافة عن تعليق مساهماتهم المالية للوكالة، باستثناء الولايات المتحدة، التي علقت مساهمتها حتى عام 2025.
وعليه طالبت "الهيئة 302" المفوض العام للوكالة بالتراجع الفوري عن قراره التعسفي، الذي يشوه صورة عمل الوكالة والأمم المتحدة وقيمها ومبادئها.
إذًا قرار لازاريني وقبله مكتب خدمات الرقابة الداخلية باطل، ولا يمت بصلة للقانون الإنساني الدولي، والاعلان العالمي لحقوق الانسان، وهو اتهام سياسي غير مسبوق وخطير، وفيه تجني فاضح على الموظفين والأمم المتحدة على حد سواء، وتواطؤ بالغ الدلالة مع إسرائيل النازية، وهو جريمة بحق هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية الملتزمة بالمبادئ والمواثيق والانظمة والمعاهدات الدولية. ولا يجوز أن يمر هذا القرار المجحف والمتناقض مع أبسط القوانين الأممية ذات الصلة، ويجب ملاحقة المفوض العام للوكالة ومكتب خدمات الرقابة الداخلية حتى التراجع عن القرار، والاعتذار عن قرارهم الخطير والمرفوض فلسطينيًا وأمميًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها