الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
الناس في "مستشفى غزّة" كانوا كالسُّكارى من الألم والحزن، لم يصدِّقوا ما حدث، لا سيما الذين عاشوا مجزرة مخيّم "تل الزعتر" للاجئين الفلسطينيين في لبنان التي حدثت في شهر آب/ أوت 1976.. كانت أحاديثهم تدور حول نكبة 1948، وكيف أن ذلك التاريخ الدموي يُعيد نفسه ويُجدّد مأساة الشعب الفلسطيني في اللجوء.
ازداد الخوف أكثر وأكثر، بسبب انسحاب الفدائيين الفلسطينيين قبل مجزرة "صبرا وشاتيلا"، وذلك ضمن اتّفاق دولي "يحمي" المخيمات، لكن ذهب كل هذا في مهبّ الريح. ومن المآسي الأخرى لمخيم "تل الزعتر"، تهجير أهله إلى مخيّمات أخرى، وأذكر تمامًا حين وصل نازحون من مخيم "تل الزعتر"، كانوا يجلسون في الطرقات في مخيم "شاتيلا"، وكان معظمهم من النساء، إضافة إلى عدد قليل من الرجال المتقدّمين في العمر، فقد قُتِل معظم الشباب في "تل الزعتر"، ومن ثمّ أخذ سُكان مخيّم "شاتيلا" النساءَ والأطفال - النازحين من مخيم "تل الزعتر" - جميعا إلى المدرسة لكي يستحمّوا.. وعاشوا معنا في "شاتيلا"، ولم أعلم بأنّ ما سمعتُ عنه سابقا من مشاهد مؤلمة سوف أراها بعيني بعد فترة، كنت أرى مُهجَّرين من مخيم "تل الزعتر" يضعون (الجاط والليفة)، ومَن يملك ثيابا زائدة عليه من سُكان المخيم يأتي بها ويقدّمها إلى مُهجّري "تل الزّعتر".
وقد كان المخيم خير معين لأهالينا النازحين من "تل الزعتر"، لكن مَن كان في وسعه أن يضمِّد جراح الفقد والقهر والموت؟ تعاون الناس جميعا على تأمين احتياجات القادمين إلى مُخيّمنا وخاصة المأكل والمشرب.. وهذه المشاهد لا تُنسى ولن تُمحى أبدًا من ذاكرتي، وكل أسى يعيدها أمامي كأنما حدثت البارحة، وها هي اليوم تنبعث حيّة خلال هذه المجزرة التي اقترفها الكيان الصهيوني بحقّ أهلنا وأناسنا في هذا المخيم.
بقيت تلك الليلة بجانب "نوال" ولم أستطع تركها أبدًا، لكن أمي شعرت بالذّعر الشديد فقرَّرت الذهاب إلى خارج المخيم، وقالت لي كلمات لن أنساها أبدًا: "يا مريم، يراودني شعور بأنهم قادمون - الصهاينة - إلى هنا، هؤلاء أناسٌ لا يخافون الله في شعبنا الأعزل، وقد يستغلّون ذهاب الفدائيين الفلسطينيين، للقضاء علينا".
في اليوم التالي ذهبت "مريم" مع والدتها، بعد صعوبة كبيرة وخوف شديد، إلى مدرسة خارج المخيم. كانت المدرسة ممتلئة بالنازحين الهاربين. وقالت مريم: "أخذنا مكانا في قسمٍ دراسي، قمنا بإزاحة المقاعد وجلسنا على الأرض أنا وأمي وطفلتي أختي.. وكان كلام الناس هنا أيضًا ما زال يدور حول ما يحدث في المخيم وما حلّ بأهله. ثم وصلنا خبرٌ بأن الصهاينة وصلوا إلى مستشفى عكا الواقع قبالة مخيم شاتيلا، بين مستديرة المطار ومستديرة السفارة الكويتية، وذلك في اليوم الثاني من أيام المجزرة".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها