محطة تاريخية هامة في إنصاف شعبنا الفلسطيني، وتعتبر فصلاً قانونيًا أساسيًا من فصول المواجهة والصراع مع دولة الاستعمار الإسرائيلية وانتهاكاتها وجرائم حربها المتوالية ضد شعبنا الفلسطيني على مدار ستة وسبعين عامًا خلت، منذ عام النكبة الكبرى في 1948، والذي تعمق بعد احتلال الدولة العبرية اللقيطة لأراضي دولة فلسطين بعد 4 يونيو 1967. 
وشكل الرأي الاستشاري الذي أعلنته أمس الجمعة 19 يوليو الحالي محكمة العدل الدولية انتصارًا نوعيًا في دعم كفاح الشعب الفلسطيني التحرري، ونقلة متقدمة في معركة الدفاع عن الحقوق والثوابت الوطنية. وجاء الرأي الاستشاري استنادًا لما طلبته اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي اللجنة الخاصة بالمسائل السياسية، وإنهاء الاستعمار، الذي تبنته في 11 نوفمبر 2022 بناءً على قرار قدمته دولة فلسطين لطلب فتوى قانونية ورأي استشاري من محكمة العدل الدولية، حول "الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر" لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل الأمد للأرض الفلسطينية منذ عام 1967، واستيطانها وضمها لها بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس وطابعها ووضعها ... إلخ.

وتمخض الرأي الاستشاري الهام بعدما بدأت محكمة العدل الدولية مداولاتها في القضية في 26 فبراير الماضي، بعد الاستماع إلى مرافعات دولة فلسطين و49 دولة عضوًا في الأمم المتحدة. وأكد غالبية قضاة المحكمة الدولية على الآتي: أولاً عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وعلى إسرائيل أن تنهي احتلالها؛ ثانيًا دعت المحكمة إسرائيل على الوقف الفوري لأي نشاط استيطاني جديد، وإخراج كل المستعمرين من الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ ثالثًا على الدولة العبرية تعويض الخسائر المادية والمعنوية للأفراد في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ رابعًا شددت المحكمة على عدم اعتراف الدول بالوجود غير الشرعي للمستوطنين ولدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم تقديم أي مساعدة من شأنها أن تساعد إسرائيل في الحفاظ على الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ خامسًا أكدت المحكمة على واجب عدم اعتراف المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة بشرعية الوضع القائم، والوجود غير الشرعي لإسرائيل في أراضي دولة فلسطين المحتلة؛ سادسًا طالبت المحكمة الأمم المتحدة والجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي دراسة التدابير الإضافية لوضع حد للوجود غير الشرعي لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.  
وأكدت محكمة العدل الدولية على أن أراضي دولة فلسطين المحتلة، بما فيها الضفة الغربية والقدس العاصمة وقطاع غزة وحدة جغرافية وسياسية وإدارية واحدة، وهي أراضي خاضعة للاستعمار الإسرائيلي. وأشارت المحكمة إلى أن إسرائيل، رغم انسحابها من قطاع غزة، إلا أنها احتفظت بممارسة سلطتها على قطاع غزة خاصة مراقبة حدوده الجوية والبحرية والبرية. وأضافت: أن واجبات إسرائيل تخضع لمعاهدة 1959 بشأن معاملة المدنيين زمن الحرب، التي تخلت عنها، ليس هذا فحسب، بل انها انتهكت بنود تلك الاتفاقية، ولم تلتزم بها. 

كما أكدت المحكمة أن إسرائيل المارقة والخارجة على القانون تخلت عن التزاماتها في معاهدة مكافحة التمييز العنصري المبرمة عام 1965، وصنف الرأي الاستشاري إسرائيل كدولة فصل وتمييز عنصري، وطالبت إسرائيل الالتزام بمعاهدة سدرا عندما تمارس سلطاتها خارج أراضيها. وشددت على منح الشعب الفلسطيني الحق في تقرير المصير، الذي تنتهكه إسرائيل على مدار العقود الماضية من الاستعمار، وترفض من حيث المبدأ الإقرار بهذا الحق الثابت والمكفول أمميًا للشعب الفلسطيني. واعتبرت المحكمة أن ترحيل السكان الفلسطينيين من أراضيهم كان قسريًا، وهو ما يخالف التزامات إسرائيل الدولية. كما أشارت إلى أن مصادرة الأراضي الفلسطينية ومنحها للمستوطنين ليست مؤقتة، وتخالف اتفاقية جنيف، وهذه الاتفاقية سعت إسرائيل منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية بعد 4 يونيو 1967 الالتفاف عليها، وعدم الالتزام بها، واعتبرت الأراضي الفلسطينية "مناطق مدارة" وأخضعتها للقوانين والقرارات العسكرية الإسرائيلية، وشرعت بإنشاء مستوطنات جديدة في الضفة والتي بلغت ضمت أكثر من 24 ألف وحدة استيطانية، وطبق قانونها الخاص عليها بما في ذلك القدس الشرقية المحتلة بعد 1967، وخلقت في العاصمة الفلسطينية وضعًا يعجز الفلسطينيون عن العيش في ظله. وأكدت المحكمة أن توسيع المستوطنات في الضفة والقدس وإقامة الجدار العازل يعزز سلطات الاستعمار الإسرائيلي.

هذه وغيرها من الجوانب القانونية، التي شملها الرأي الاستشاري جاء في لحظة تاريخية هامة من حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني، الذي يخضع على مدار الشهور العشر الماضية لجرائم حرب إبادة مجنونة، ويعتبر بمثابة مقدمات هامة للقرار الذي يفترض أن يصدر عن ذات المحكمة في الدعوى القضائية، التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا الصديقة نيابة عن الشعب الفلسطيني، ويستدعي من قضاة المحكمة الاستعجال في إصدار رأيهم القانوني باعتبار دولة إسرائيل دولة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني جزئيًا وكليًا، لمحاصرتها وعزلها كدولة خارجة على القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الأممية المختلفة.