من يشاهد لوحات الفنّان الفلسطيني هاني زُعرب (1976) في معرضه الأخير "إكسير الذاكرة"، يشعر من الوهلة الأُولى أنّه أمام لوحة متكاملة. لوحة لا تملك فقط أسلوبها المتعدّد المسترسل المتتابع، بل إنّ هذا الأسلوب يستلهم لوحات عدّة من مراحل ومحطّات كثيرة، بحيث يتراءى لنا أنّنا أمام لوحات شتّى في لوحة واحدة.

يُمكن للمُشاهد أن يتبع اللوحة وهي تجمع بين ما يبدو سردًا وحكاية، مع ما يبدو غناءً لا يلبث أن ينكسر في دراماتيكية عالية، تنتقل فيها الحكاية والغناء إلى ما يبدو لحظة صراع، بل ولحظة تاريخ. يُمكننا هكذا أن نتكلّم عن سيولة أسلوبية، عن مغامرة لا تتوقّف عند حدّ واحد، بل تُزاوج وتقرن بين عناوين وطرائق، بل وفصول ولُمَح تأتي من جهات شتّى.

يمكننا هكذا أن نتكلّم، في آن واحد، عن تسطيح وتغور، عن غناء وسرد، عن تاريخ وتفاصيل ويوميات، عن منظور عميق ورسوم. يمكننا هكذا أن نجد فنّاً غايته الكبرى أن يراجِع في اللوحة الواحدة ما يمكن اعتباره الفنَّ كلّه، ما يمكن أن يبدو خلاصة للفنّ، وعملاً على إنتاج أمثولة فنّية.

نحن هكذا أمام تجريد حُرّ من نفسه، تجريد بكلّ معنى الكلمة، لكنّه يكاد ألّا يكون تجريداً. إنّه يسوق للتجريد ما يمكن استلهامه من أطوار فنّية ومراحل، وربما اتجاهات ومدارس. هكذا، يبدو التجريد وقد امتلأ واغتنى بسوابق عليه ومن حوله، وجارى، بطريقته هو وفاعليته هو، لوحات ومحاولات شتّى.

هكذا يمكن للتجريد أن يخرج من نفسه، مع بقائه فيها، ومع ما يبدو إغناءً لها وتطويراً وتجاوزاً. هكذا يسعى التجريد لوراثة الفنّ، هكذا يبدو نفسه وغيره في الوقت ذاته. هكذا، بلغته هو وفنّه هو، يتصدّى لمطالب وغايات وأغراض أُخرى. بلغته هو يتكلّم بلغات غيره، بفنّه هو يستدعي فنوناً ثانية وثالثة. هكذا لا نفتأ نتذكّر، ونحن نراه، مقاصد ووجهات سبقته أو جاورته. ما يعني أنّ اللوحة تبدو هكذا مشغولة بالفنّ كله، وهي تحاول، مع ذلك، أن تُنتج فنّها الخاص.

لوحة هاني زعرب تُشعرنا، أو على الأقلّ تشعرني أنا، أنّها تملك مشروعها الخاصّ. أنّ لها رؤاها، وأنّها، في سبيل ذلك تتنكّب السعي فوق طُرق ليست جاهزة لها، وليست بالدرجة نفسها، من بديهياتها. لا أعرف لماذا أشعر بأنّ هذه اللوحة، في سياقاتها وتفاصيلها، تكاد تخرج من نفسها. أو تستلهم جارات لها ذات وجهات حكائية.

ليس في هذه اللوحة ما يُذكّر بالجداريات، لكننا مع ذلك نبقى في شعور بأنّ فيها رُوح الجدارية، أنّ فيها ما يكاد يكون استبطاناً لتاريخ كامل، بل إنّ فيها ما يمكن أن يكون قصّاً، وقصّاً متراكباً يجمع ما بين اللحظة الراهنة وبين استرجاعات من أزمنة أُخرى. يمكن لذلك أن نفكّر بأنّ في هذه الحكاية ما يردّنا، من بعيد وبالفكرة وحدها، إلى نوع من الشعبية، إلى طاقة للحكي والسرد، إلى درجة من الرواية. أقول، من بعيد وبالفكرة وحدها، إنّها بذلك ذات ملمح شعبي.

لوحة زعرب هي، بدرجة ما، حكاية. إنّنا، ونحن نراها، نتصفّح لحظات شتّى، وندور في منعطفات شتّى، ونسترسل في متابعة ذلك، خبراً على خبر، موضوعاً فوق موضوع. ثمّة استرسال في ذلك، وتعقُّب وتساوُق وتتالٍ، نشعر معها أنّنا نتصفّح هذه المحطّات، التي تندرج جميعها في استرسال حكائي.

بل إنّ هذه النزعة للإبلاغ والحكي تجعل من اللوحة بكاملها صورةً تلو صورة، موضوعاً تلو موضوع. تجعل منها فنّاً يملك قصداً حكائياً، من هنا شعبيته الباطنة المستترة، لكن للوحة سياقاً آخر، إنّها، على نحو ما تاريخ؛ إذ إنّ للصور في تتاليها، في تساوقها وتتابعها، ما لا يشبه الحكاية فقط، بل ما يُشعرنا أنّ اللحظة حاضرة.

إنّ سياق اللوحة يكاد يكون سياق الوقت، عالم يتتابع بقوّة السرد وبقوّة الاسترسال والسيولة فيه. إنّه عالم يغني ويقصّ، لكن في السياق نفسه نجده يتوتّر ويتغور ويتعمّق. إنها لحظة ملحمية، الحكاية تتطوّر إلى أن تُصبح ملحمة، بل إنّ السرد لن يلبث حتى يتوتّر، حتى يدخل في مضاعفات الزمن، ومضاعفات التطوّر، حتى يكشف عن لبّه التاريخي والملحمي. إذ ذاك نفهم أنّ الحكاية تعقّدت وتحوّلت إلى عمق ملحمي، إلى لحظة ملحمية.

يُذكَر أنّ المعرض أُقيم بين 21 نيسان/ إبريل و12 أيار/ مايو في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" بعمّان، بالتعاون مع غاليري "ARTZOTIC" الرقمي.