الشاعرة الفلسطينية نهى عودة 

إنَّ اللُّجوءَ لا يتآلف مع الوقت كساعات اليوم المُتعارف عليها، لا يمرُّ على عقاربِ السّاعة، بل يفعل ما يريد من احتمالات تتغيَّرُ حسبَ ظروف الزمنِ الراهن. على اللاَّجئ الفلسطيني أن ينهضَ دومًا من دوامةِ قهره المُنتشِرة على امتدادِ نهاره وليله.

عليه أن يَمرَّ على الحواجز العسكرية التي تحيط بالمُخيَّم وتخضِعُ السيارات دومًا للتَّفتيش الدقيق، أمَّا المارَّةُ فعليهم إبرازُ هويَّتِهم الزَّرقاء (بطاقة الهويَّة التي يحملها الفلسطيني اللاجئ في لبنان، هي عبارة عن كرتونَةٍ زرقاء يُكتَب عليها بخطِّ اليد، وحجمُها يعادل حجمَ الكف الكبير).

يكفي اللاَّجئَ أن يمرَّ على حاجزٍ في طريقه ليعلم مدى البُؤس الذي يحيط به إن نسِيَ يومًا بطاقةَ هويَّته في جيبِ قميصٍ آخر غير الذي يرتديه.. ولن يُسعفَه الوقتُ، إن كان مُرتبطًا بموعدٍ مُحدَّدٍ، ولم يكن بيته مجاورًا لحاجزِ التفتيش، حتى يعود إلى بيته ويصطحب معه بطاقة هويَّته. ولن يُسعفه أيضًا ليُدرك عمله دون تأخير.. عملَه الذي غالبًا لا يتوافقُ مع اختصاصه العلمي، فهو عملٌ يضمنُ القوتَ اليوميَّ لعائلته في حدِّه الأدنى.. اللاَّجئُ يعملُ ليبقى على قيد الحياة، ولا يعملُ ليعيش ويُحقَّق طموحاته وأحلامه مثل أيَّ إنسانٍ عاديٍّ.

على اللاَّجئِ الرَّجل أن يكون زوجًا صالحًا، وأخًا مُتفهِّمًا، وأبًا حَنونًا، وإنسانًا لا يتنازل عن كرامته رغم كلِّ شعورٍ بالظُّلم والحرمان والقهر.

على اللاَّجئة المرأة أن تكون زوجةً تَمرُّ على شغافِ القلب فتَسلبه الدّقَّات، رغم ضيق البيت، رغم تلاصُق الجُدران، رغم لوعة الحرمان، رغم الأصوات التي تُعيق الاستماع إلى الموسيقى أو قراءةَ كتاب، رغم الضَّيق من كلِّ ضيقٍ يَفتِك بروحها.

على اللاَّجئة أن تكون فتاةَ الحُلم المَكبَّل بأغلال اللُّجوء، عليها أن تستسلمَ لتكون طفلةً من الدَّرجة الثَّانية، ولا تُغامر باللَّعب في مساحة لا تتَّسعُ لفستانِها الوردي، فزواريبُ المُخيَّم كثيرةٌ جدًّا، والبيوتُ تسندُ بعضَها بعضًا في أزقَّة ضيِّقةٍ ومُتعرِّجة، ومساحات لعب الصِّغار أمام بيوتهم ضربٌ من الحلمِ الكافرِ بالمُمكن.

لقد جُبِل الفلسطيني من طِينَةٍ مُختلفةٍ عن طينة باقي البشر، فهو يحملُ همَّ نفسه، وهموم مَن حوله، إضافةً إلى هموم وطنه الذي يحمله في قلبه ويعيشه بوجدانه وخياله وأفكاره من خلال حكايات الجيل الأوَّل من المُهجَّرين، وكثيرون عاشوا على قيد حلم العودة ثم ماتوا ولم ينعموا بهواء الوطن والتِحاف سمائه وقراءة ملامح شوارعه وحقوله وجباله بعيونهم..

قدرُنا نحن اللاَّجئون أن نعي بأنَّ وضعَ هدفٍ في الحياة كان دومًا وسيلتُنا لتستمِرَّ هذه الحياة، وبأنَّنا لاجئون نكابد السِّنينَ في مغالبة حُلم العودة إلى الوطن، وإقناع أنفسنا أنَّ العودة حتميَّةٌ، واستكمال مراحل العمر في مِضمار حروبٍ مرئيَّةٍ وانهزامات لا مرئيَّةٍ.

 فلسطين كانت ولمَّا تزل بوصلة أرواحنا ووجهة قلوبنا وعقولنا، ونحن ننشأ بفطرتنا الفلسطينيَّة على أنَّها تستحقُّ أكثر وأكثر.. تستحقُّ أن نمرَّ على الحواجز ببطاقة هويَّتنا الكبيرة المكتوبة بخطِّ اليد لنتيقَّن بأنَّنا ضيوفٌ في بلد اللُّجوء.

أمَّا إن كنتَ فلسطينيًّا من اللاَّجئين في بلد عربيٍّ آخر، وجئتَ لزيارةِ قريبٍ أو صديقٍ في مُخيَّمِنا، فعليك أن تطلبَ إذنًا بالدُّخول من الجهات الرَّسميَّةِ المُختصَّة، لأنَّك لا تحملُ بطاقة الهويَّة الزرقاء الخاصَّة باللاَّجئين الفلسطينيين في لبنان.. فإن حصلتَ على الإذن بالدُّخول، فيكون الأمرُ لمدَّةٍ محدودةٍ، وبعدها تُغادرُ وأنتَ مُحمَّلٌ بمزيدٍ من الشُّعور بالقهر. كأنَّما هذه المُخيَّمات هي سجونٌ كبيرةٌ ومُسيَّجةٌ تستوعبُ عائلاتٍ تتناسلُ وصارت في جيلها الثَّالث أو الرَّابع.

نحن نحيا النِّضال في كلِّ شيءٍ. نُناضلُ من أجل أن نبقى مُتمسِّكين بهويَّتنا التاريخيَّة والتراثِيَّة، عاداتنا وتقاليدنا، أزيائنا وأُكُلاتنا، أمثالنا وحكايانا.. على الفلسطيني أن يُوجِّه قلبه نحو فلسطين، ويرسم خارطةً تقُوده إلى قريته التي هُجِّرَ منها.. نحنُ نناضلُ من المهد على اللَّحد، وفي مختلف محطّات نضالنا علينا أن نحفظَ كرامتنا الفلسطينية والإنسانية من أيّ دَنسٍ قد يطالُها من تنكُّر العالم لنا، لا سيما تلك الدُّول الكُبرى التي أعلنت حروبًا على شعوبٍ كثيرةٍ، تحت شعارات الحُريَّة والعدالة والأخوَّة الإنسانية وحقوق الإنسان..