إتخذنا القرار المميت لنكتب، حتى يتساوى الحي مع الميت، الناطق مع المنطوق، نكتب من غزة روايتها الطويلة لنقول للعالم أن الكتابة فعل موت عاجز عن الممات، نكتب عن حبة تمر تنمو خضراء خضراء في قبضة يد لجثة مدفونة تحت الأنقاض، لقد تفاعل الحبر مع الدم والتراب في ساعة الآذان في شهر رمضان، فلم يعد الموت تفريغ الحاضر والماضي من الحياة، وإنما في الموت تصل الحياة ذروتها ، الكتابة في غزة ميلاد.
إن الموت يسيطر علينا، نراه معنا وفينا ليل نهار، يأخذنا إلى البعيد وينفجر فينا، لكن هيمنته تتأتي من خلال استحالته، نكتب فيتوقف الموت، يفيق الموتى قبل أن يموتوا، نسمعهم ونضمهم، نسمع حديث الصمت لأول مرة فيلتحم الوجود مع الفراغ.

نكتب بين الجثث، الكتابة هي العين المحملة بكل ما رأته من كوارث، نكتب بعيوننا المستيقظة دوماً، أنظروا في حدقات جثثنا، ترون غزة من الشمال إلى الجنوب، تروننا أحياء من الجليل إلى النقب كأننا ألف مستحيل، الكتابة تمزق الغلاف الكئيب عن الميت والذكريات، تخرج من سرادق الدفن والنيران وطمس التاريخ، نخرج بالكتابة من العزلة وكآبة الرثاء ومن المدينة المتشظّية، نجترح بالكتابة كل مشتقات الموت حتى يذوب الموت ويتلاشى، لا نقبل أن ينتهي كل شيء، فالحياة تمضي، الحياة نحن الباقون الذين نواجه آلة الحرب برفض الهزيمة والفناء.
نكتب لأنه حقاً نقوم من الموت، فكل الثورات والحضارات بدأت بكلمة في قصيدة أو بيان في مظاهرة، ونمضي إلى أقصى المخيلة، لنا سماء فوق السماء، وجدار بعد الجدار، نمضي إلى الوجود الحر ومطلق الأشياء، نكتب لتصير الكتابة لباسنا الدافيء الواقي للكرامة والمقاومة.
نكتب بين الجثث، وسط القهر والرعب، ولكن من يكتب لا يُهزم فالحرية الحقة لا تكون إلا في الموت، فبعض الموت حياة، نكتب كل يوم لنشطب الدمار والنكبات المتسارعة، نزرع الحدائق ونغني للأطفال، نسمعهم في ذواتنا كصوت البحر.

نكتب من غزة باللحم والدم والجوع والعظام الناشفة، قبلة على جبين غزة في الذكرى السادسة والسبعين للنكبة، ما الذّ الكتابة عندما تكون غزية المذاق، الكتابة في غزة تبني مكاناً في المكان، وزمناً في الزمان، الجثة هي الراوي، ومن أجدر بالموت من الحكي الآن، للموت لسان وعيون باهرة، وقد فاضت الكلمات بالفجيعة، تلك العيون التي تجيد التحديق في الكارثة، وتعري العالم من كافة الأقنعة.
نكتب بين الجثث لنرى صورتنا فيها، القارىء والكاتب، القاتل والمقتول، جميعهم يلتقون في نص غزة، القارىء عليه أن يعيش النص ليخلقه وينتجه من جديد وعياً وفكراً وممارسة، إنها فاعلية الكتابة وسط الجحيم والخراب في غزة، نكتب بالنيران المشتعلة في أصابعنا، نرفض الموت لهذا نكتب، نحرك الكلمات حتى لا يتحول النص إلى تابوت، نحرك جثثنا في الكتابة كي يتحرك الهواء من حولنا ، حينها نشعر بالحرية.
نحن الفلسطينيين نتحرر من الموت بالكتابة، ونحرر الموت من الموت، سواء تكلمنا أم صمتنا فقط تكلمنا، وصارت الكتابة هي البيت، نحن نتكلم بإستمرار من غزة حتى لو لم ننطق بكلمة، نكتب غزة بيدنا، بجثثنا، بموتنا، لهذا أصبحت كتابتنا عالمية، اللغة الإنسانية تفوقت على الإنفجارات المرعبة وهستيريًا الفاشية، أنا أكتب لأني لا أزال حياً، الكتابة في الحرب جمال يعيد تأثيث ما شوهته هذه الحرب في نفوسنا.

نكتب من غزة، نسير بين الجثث، نخرج من بين الجثث، ننام مع الجثث، وكم تعاني الكتابة لتصل إلى قطعة خبز أو قنينة ماء أو كتاب أو ورق، كل شيئ قد إحترق، وكم تتكبد من المشاق لتلملم أشلاءها ولغتها المتفسخة لتصل إلى قبر أو خيمة أو شفق، وها نحن نتخلص من إعياء الجسد بالكتابة، لهذا نكتب بالأنفاس والأرواح ونكون وجهاً لوجه مع الحقيقة، نحن في غزة نمارس فن الموت ونتعلم كيف نموت بكبرياء.
نكتب بين الجثث عن الحب والعشق الصوفي في حنايا القلوب وعناق الجثث، تجتمع الأرض والسماء وتصبح غزة هي المعبد، نجري بين الغارات والصواريخ لنخطف قبلة عن جبين غزة هذا المساء، نعطيها فرصة أخرى لترتيب زفافها وسط طواحين الموت، تلبس أجمل الثياب وهي تستعد للحياة القادمة.