احتفلت دول أوروبا قبل أيام بالتاسع من أيار الجاري بـ"يوم أوروبا"، الذي يأتي لإحياء ذكرى إعلان شومان في العام ١٩٥٠ الذي أسس بعد ذلك لوجود الاتحاد الأوروبي بهيكله الحالي المكون من ٢٧ دولة أوروبية. وهو ذات اليوم الذي تحتفل به الشعوب الأوروبية وفي روسيا على وجه الخصوص بيوم النصر على النازية.

وفي هذا الوقت وبعد ٧٤ عامًا من هذا الاعلان الذي أتى بعد عامين من جريمة النكبة، ما زالت القضية الفلسطينية رقم صعب في أي معادلات إقليمية رغم كل محاولات التصفية ، والتي يمكن أن تنفجر بشكل اكبر في أي لحظة كما انفجرت لحظة ٧ أكتوبر وما خلفته من تداعيات ومفارقات على المجتمع الإسرائيلي بشكل عام والرؤية الأمنية لديهم. وحينها ستصل تداعياتها إلى الشوارع العربية والعالمية كما يحدث الآن، لكن بشكل أوسع وأكثر تأثيرًا على مجتماعاتها، خاصة وأن استراتيجية الأحتلال القائمة على أن الإسرائيليين هم ضحية اعتداء ويجب مراعاته وتحقيق أمنه لم تعد موجودة على طاولة الرأي العام الدولي المتصاعدة، إلا في عقول معظم الإسرائيليين سوى القلة الذين قاموا يوم أمس بإخماد ما تسمى "شعلة استقلالهم" بدلاً عن اضائتها من قبل جموع المتظاهرين احتجاجًا على حكومة نتنياهو والحرب التي يخوضها ويصفها بالمعركة الوجودية. هؤلاء يجب ان يستشعروا اكثر ان لا مجال لاستقرار مجتماعاتهم سوى بإنهاء الأحتلال حين ادراكهم مدى كلفته عليهم.

إن ما يجري اليوم ليس تصفية الأداة العسكرية للمقاومة فقط، بل الإطاحة بكل الأجسام الوطنية ومقدرات شعبنا في كل مكان، من الفكرة إلى القيادات السياسية والميدانية الى الفرق الإغاثية وصولاً إلى المشروع التحرري الفلسطيني بكل مكوناته. لكنه أيضًا سيجر المجتمعات اليهودية في دولة الاحتلال إلى التشتت والفوضى ما يهدد مبرر تماسكها بعد اليوم والمتغيرات التي ترافق ما يقومون به من تطهير عرقي لاصحاب الأرض.

ورغم ذلك لا يوجد أحد في كيان دولة الاحتلال ولا في النظام القائم بالولايات المتحدة ولا في معظم الغرب، من هو مستعد فعلاً لتلبية جزء من حقوق الشعب الفلسطيني السياسية والتاريخية والقانونية والتي تتلخص أساسًا بحق تقرير المصير وضرورة إنهاء الاحتلال الاستيطاني كاملاً وصولاً إلى إقامة الدولة المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس على كافة الأراضي ما قبل ٤ حزيران ٦٧ وعودة اللاجئين وفق القرار ١٩٤، الأمر الذي تتجاهل تفاصيله الولايات المتحدة عند حديثها عن حل الدولتين.

واليوم إذا كان الاتحاد الأوروبي أو دولة الأعضاء وبتفاوت مواقفهم في بعض الأحيان لا يرغبون في أن توصف سياستهم بالنفاق أو بالكيل بمكيالين تجاه القضايا المثارة في هذا العالم وفي تعاطيها او بمدى التزامها بما نصت عليه المبادئ التأسيسية الاتحاد الأوروبي التي تتلخص بالعدالة والحرية والديمقراطية، كما القوانين والقرارات والأنظمة والمعاهدات الدولية التي وقعت هي نفسها عليها والزمت نفسها بها من خلال انضمامها لتلك المعاهدات والاتفاقيات التي وجدت لتنظيم العلاقات الدولية. ومن أجل عدم سريان قوانين شريعة الغاب في هذا العالم. فعلى الأوروبين التحلي بجرأة المواقف من مبدأ ضرورة إنهاء الأحتلال الكولنيالي والأبرتهايد وما يجري اليوم من حرب إبادة وتهجير وتجويع في قطاع غزة واتخاذ ما يلزم لوقف تزويدها بالسلاح واتخاذ إجراءات عقابية وفق ما نصت عليه القوانين الأممية ضد إسرائيل، هذه الدولة القائمة بالأحتلال الاستيطاني والاحتلالي والتمييز العنصري والفوقية اليهودية.

ولأننا غير عبثين، فمن المنصف رؤية بعض المتغيرات في مواقف عدد من الدول الأوروبية التي صدرت حتى الان وخاصة تلك التي اعترفت بدولتنا أو على الأقل تلك التي صوتت إلى جانب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، ورؤية الجانب الايجابي فيها والبناء عليه ومراجعة الدول التي صوتت ضد القرار أو التي امتنعت عن التصويت وتحديدًا من دول الاتحاد الأوروبي. رغم أن إسرائيل كانت قد أرسلت وما زالت إشارات مباشرة لمن يصوت ايجابًا تتهم بها هؤلاء بمعاداة السامية وتؤكد بأن العنصرية مسموحة ضد غير اليهود، لكنها غير مسموحة بحق اليهود.

إلا أن معظم المواقف الرسمية الحكومية الصادرة أن كان بالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي ما زالت تعبر بذلك عن حقيقة مواقفهم السياسية التاريخية ومصالحهم وما يؤمنون به من فكر، دون اكتراث بأن ادعاء "استقلال إسرائيل" المزعوم هذا قد مثل نكبة شعبنا الفلسطيني، تلك الجريمة المكتملة الأركان من التطهير العرقي والاستيطان، والتي لم يحاسب العالم مُرتكبيها حتى اليوم .

تلك مواقف يجب أن تتغير كي لا تخدم فقط استدامة الاحتلال الاستيطاني على أرض الواقع، واستمرار سياسات إدارة الأزمة دون حلول سياسية لجذر الصراع المتمثل بالأحتلال الاستيطاني والأبارتهايد.
وهو ما يعبر عنه الغرب الرسمي بكل وضوح انطلاقًا من محددات ما يسمونها بالقيم المشتركة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي يتغنون بها، ولأهمية مكانتها الجيوسياسية لأطماعهم، كما وسندًا لاستمرار عقدة الذنب من "الهولوكست" التي ما زالت تلازم بعض الأوروبين وهاجس الخوف من الحركة الصهيونية أو لانخراطهم فيها لأسباب مختلفة كما يصرح البعض منهم جهارًا، رغم كل الفظائع التي ترتكبها.

إن الأمر المطلوب من الأوروبين اليوم هو التحرر من العبودية الأميركية الرسمية أمام تكشف وجه دولة الاحتلال أمام المترددين بالغرب، وهذا يتوقف هنا على بشاعة ما يدور اليوم من عدوان وجرائم بحق شعبنا بما يخدم سياسات نتنياهو وحساباته الداخلية في الهروب إلى الأمام من الصراع المحتدم داخل المجتمعات اليهودية ومحاولة تحقيق الوحدة والاجماع داخل حكومته كما الكل الصهيوني وتحقيق شعار استعادة الردع وتوجيه رسائل للآخرين تتعلق برؤية مستقبل قطاع غزة كجزء من ترتيبات تخدم مشاريع دولة الاحتلال وما يرافقها بالقدس والضفة، وذلك من خلال عدوان الابادة والتهجير الهمجي ضد أهلنا في غزة وارتقاء الشهداء يوميًا في نابلس وجنينن وغيرها من مدننا ومخيماتنا الصامدة منذ بداية هذا العام وما قبل، أو قرارات حكومة الاحتلال الأخيرة بمحاصرة مؤسساتنا الوطنية ومدننا وببناء وحدات استيطانية جديدة أو استمرار الاعتداء على هوية القدس ومكانتها ومقدساتها وحتى محاولات إفشال دور السلطة الوطنية وتوسيع هوة الخلافات بينها وبين شعبنا وإضعافها.