الطفل الفلسطيني كائنٌ إنسانيٌّ صغيرٌ بسنوات عمره وبنية جسده، لكن مأساته فاقت قدرة الرجال على تحمّل قهر الحياة، يولد رجلاً منهكًا من فرط المآسي، شاردًا في مستقبل لا يعلم إن كان سيسعفه العمر ليصل إليه أو يستشهد قبل أن تتفتّح زهرة شبابه، لكنه لا يرى سبيلاً آخر ليمضي في دروب الحياة غير الصّبر والتحمّل وتجاوز الصعوبات مهما بلغت، وذلك من خلال فطرته الفلسطينية المبنيّة على أساس التحدّي والمغالبة والإيمان بحتميّة زوال الاحتلال الصهيوني.
الأوطان تبني قوّتها وتقدُّمها على أسُس النّهضات الفكرية والعلمية والأمن والاستقرار، ليعكس ذلك منهجًا واضحًا على أطفالها أولاً ونشأتهم ممّا يهوّن استقبال الحاضر بفكرٍ متنور وعلم ينفع المجتمع. هذه المفاهيم لا تطبق على الطفل الفلسطيني في كافّة أرجاء الوطن دون استثناء وفي الشّتات أيضًا خاصة في مخيّمات اللجوء. إنّ قضية الأمن والاستقرار هما الحجر الأساس لحياة طبيعية، أمّا الحال في فلسطين تحديدًا فيمكنك أن ترى طفلًا يُعتقل ويُسجن وهو ذاهب في طريقه إلى مدرسته، بحجّة الإرهاب واختلاق القيام بعملية طعن كاذبة لكائن صهيوني، حتى وإن اضطرّ المحتلّ إلى وضع سكين في جيب الطفل الفلسطيني، ليؤكّد مزاعمه وادّعاءاته الباطلة.
حسب تقارير مؤسّسات الأسرى: (هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، ونادي الأسير الفلسطينيّ، ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، ومركز وادي حلوة – القدس)، "بلغ عدد الفلسطينيين الذين تعرّضوا للاعتقال من قبل قوات الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967 وحتى نهاية عام 2023 نحو مليون فلسطيني، أكثر من خمسين ألف حالة اعتقال سجِّلت في صفوف الأطفال الفلسطينيين (ما دون سن الـ 18 وفقًا للقوانين الدولية)".. هذا الطفل المعتقل يتعرّض لأعنف الممارسات الصهيونية والتي تتمثّل في الحرمان من الغذاء، العلم، الدفء، الطبّابة، والسجن الانفرادي الذين يعملون به على تشويش ذاكرته وإتلاف خلاياه دماغية لتحوليه إلى طفل غير مكتمل فكريًّا ومضطرب نفسيًّا.
إنَّ الحرب بحدّ ذاتها تعيق تقدّم المجتمعات حتى انتهائها، وتضميد الجراح والمأساة وما ينتج عنها من دمار يؤخّر الحياة الطبيعية لسنين طويلة، فكيف باستيطان صهيوني همجي اغتصب أرض فلسطين وجرَّد شعبها من حقوقه، ومارست مرتزقتُه عنجهيّة التّدمير والقتل والتّشريد على مدى سبعة عقود وأكثر. حيث تزداد في الصهيوني كل يوم شهوة القتل والتنكيل بالأطفال والناس العزّل، وذلك لسقوط نظرته اتجاه هذا الشعب والتي صرحت بها رئيسة وزراء الكيان الصهيوني السابقة "جولدا مائير": "الكبار يموتون والصغار ينسون"، فأين أصبحت هذه المقولة في وقتنا الحالي؟
فهل يمكن للطفل أن يعيش حياة طبيعية في ظل وجود هذا الاستعمار الاستيطاني الحقير الذي يأخذ أيّ ذريعة لقتله؟ لكن ما مرّت وتمرُّ به فلسطين وخاصة في العدوان الصهيوني الأخير على غزّة هاشم والضفة الغربية والقدس. وصمود الشعب الفلسطيني وحده يجعلهم موقنين بأنّهم واهمون، وبأنّهم سيعودون إلى الأوطان التي نبذتهم فرمتهم عالة على الأرض المقدّسة المباركة. رغم هذا ترى أنّ عددًا لا يستهان به من الأطفال الفلسطينيين قد وقفوا بمواجهة الدّبابة الصهيونيّة دون خوف أو رعب. وذلك لأنَّ الطفل الرجل تربّى على الوجع وعلم أنّ هذا عدوّه وعليه اقتلاعه من أرضه.
إنَّ الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وتحديدًا اتّفاقية حقوق الطفل، شدّدت على ضرورة توفير الحماية للأطفال، وقيّدت هذه المواثيق لضمان عدم سلب حريّة الأطفال والمساس بطفولتهم. إلّا أنّ سلطات الاحتلال الصهيوني جعلت من قتل الأطفال الفلسطينيين واعتقالهم والتّنكيل بهم همَّها الأول وذلك لمآرب كثيرة، فهي تعلم أنَّ الأطفال هم لبنة المجتمع في الحاضر، وهم المقاومون في المستقبل، أشبال اليوم هم أسود الغد.
عملت منظمة التحرير الفلسطينية وعدد كبير من الجمعيات الفلسطينية المستقلة على إنشاء مراكز ودورات خاصة بالطفل الفلسطيني لتعميق وتجذير فلسطينيته وانتمائه ومعرفة هويته وتراثه. ولربما الاحتلال قد أعطى للطفل سلاحه الموجّه نحوه دون أن يشعر هذا الطفل الذي يعي تمامًا بأنَّ هذا الصهيوني يحمل السلاح لقتله، فيجتاحه الفضول لتحضير أسئلته الكثيرة ومحاولة فهم كل ما يدور حوله من أحداث كثيرة متعددة.
إنّ مأساة الفلسطيني المتتالية وجنازات الشهداء والممارسات الاستيطانية، كل هذه المشاهد المتكرّرة تجعل الفلسطيني إنسانًا يصعب على الاحتلال الصهيوني تهويده أو تركيعه أو هدم شخصيته الأصيلة.
إنّ عمل وزارة الثقافة والإعلام الفلسطيني في ترسيخ البرامج الوطنية الثقافية والإعلامية وإقامة المهرجانات المتتالية على أرض الوطن وخارجه، والجمعيات والنشاطات المستمرّة التي ترعى بشكل دائم المواهب والإبداعات الفلسطينية، وتقديم التراث كهوية لا تتبدّل ولا تتحوّل. تجعل الأمر أصعب على الكيان الصهيوني وتجعله دومًا على يقين بأنَّ الصغار المقهورين سيصبحون أداة لقتله ودحره خارج الوطن ليعود إلى من حيث جاء أو تبتلعه الأرض.
يعمد الاحتلال الصهيوني إلى قتل أكبر عدد من الشباب والأطفال الفلسطينيين، لكنه لا يعلم بأنّ فلسطين ولّادة، وهو واهمٌ إن اعتقد بأنّ قوّته وجبروته وطغيانه ودعم الغرب الاستعماري له سيمكّنه من ترسيخ أقدامه على أرض فلسطين.
فأرض الأنبياء التي باركها الله ومنح شعبها قوة جسدية ونفسية وروحيّة، ليتحمل الشعب الفلسطيني مثل هذا النّوع من الأعداء الذي لم يتوان يومًا حتى عن قتل الأنبياء، فهذه القدرة الإلهية التي أودعها الله في الشعب الفلسطيني كفيلة بأن تُبقيه على العهد مع أرضه وقضيته العادلة والإنسانية حتى تحقيق النصر المؤزّر وعودة اللاجئين إلى أرضهم الفلسطينيّة بإذن الله.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها