قبل أن تندلع الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر وتكنس النظام الاقطاعي، فقد مهد لها أدباء ومفكرون  وعلماء اجتماع،  وشعراء ومسرحيون وفنانون تشكيليون، وبفعل الثورة وخلالها نتج جيل جديد من المثقفين في فرنسا وأوروبا، لذلك اطلق على عصر ما بعد الثورة، في تاريخ اوروبا عصر التنوير والحداثة. كل الثورات، وفي مراحل لاحقة،وكل حركات التحرر الوطني العالمية، التي تكافح من أجل الاستقلال من الاستعمار، جميعها كان يصاحبها مثقفوها ومفكروها وشعراؤها، وهناك من اطلق عليهم لقب مثقفي وشعراء ومفكري الثورة العالمية بعد ثورة اكتوبر الروسية، الذين يدعون إلى حرية الشعوب وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
الثورة الفلسطينية التي انطلقت في ستينيات القرن العشرين انتجت حركة ثقافية فلسطينية مبدعة ونشطة في كافة مجالات الثقافة، وكان لمنظمة التحرير الفلسطينية مؤسساتها الثقافية، وشهدنا جيلاً مبدعًا من المثقفين الفلسطينيين، وكادرًا إعلاميًا متنورًا، بعقل حر منفتح، كان من بينهم اليساري المتطرف، واليساري المعتدل، والليبرالي والمحافظ. وكان مركز الابحاث، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومؤسسات بحثية أخرى. التي مثلت عقل الثورة، وامتلكت مؤسسات السينما والمسرح، ونهضت في كنف الثورة الرواية، ونهض الشعر ودخل هؤلاء العالمية، ونهض الرسم التشكيلي وانتجت الثورة جيلاً جديدًا من الرسامين والمخرجين السينمائيين والمسرحيين.


الشعب الفلسطيني لا يزال يعيش على هذا التراث الثقافي الذي صاحب الثورة في كافة أماكن تواجده، في المناطق الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وفي الارض المحتلة وخارجها، كان فعلاً متكاملاً ومكملاً للفعل السياسي والعسكري، فالأجيال الفلسطينية كانت تنتمي للثورة والمقاومة من البوابة الثقافية، والفكرية اكثر بكثير من بوابتها العسكرية. ومازال شعراء المقاومة وروائيوها: محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وحنا أبو حنا، وعبد الكريم الكرمي ابو سلمى، وهارون هاشم رشيد. وغسان كنفاني واميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا يلهمون الاجيال الفلسطينية حتى الآن.
ما أريد قوله إن الإنسان بالضرورة عليه أن يسأل نفسه عند دعمه لأي ظواهر تقول عن نفسها مقاومة: أين مثقفوهم ومفكروهم؟ أين مشروعهم الثقافي؟ وما هي طبيعته؟ 


الثورة الفلسطينية اكتسبت جزءًا كبيرًا من الدعم العالمي لها؛ بسبب عدالة قضيتها ومشروعها الثقافي الانساني النشط، ورموزها الثقافية اصبحوا رموزا للثورة العالمية، وترجمت الاعمال الادبية الفلسطينية لعدة لغات. سؤال الفكر والثقافة هو السؤال الجوهري ان كان مشروع المقاومة مشروعا نهضويًا، أم أنه مشروع يأخذ المجتمع والشعب إلى الخلف، حركات التحرر أخذت اسمها هذا؛ لأنها حركات استقلال ونهضة اجتماعية وثقافية وفكرية، مشاريع تنمي الإنسان والمجتمع في كافة المجالات.
هناك حاجة لتقديم تجربة الهلال الأحمر الفلسطيني، وهو احدى المؤسسات التي اسستها الثورة الفلسطينية. الهلال لم يكن مجرد مؤسسة صحية، إنما حولها الدكتور فتحي عرفات إلى مؤسسة ثقافية، تحافظ على التراث وترعى المثقفين الفلسطينيين، وتدعم مشاريع لرسامين وسينمائيين وكتاب فلسطينيين، ولم تكن لتنجح كونها مؤسسة صحية لو لمتكن مؤسسة نهضوية، تنهض بالمجتمع وصحته، عندما كنت تجول بمقرات الهلال الرئيسية، كنت ترى لوحات الرسامين الفلسطينيين، وكان في كل مقر مكتبة شاملة، واكثر قطع التطريز والأعمال اليدوية الفلسطينية روعة. وللدلالة على نشاط وحيوية المؤسسة كان شعار قسم الطوارئفي بيروت وحتى في الوطن "سيارات اسعافنا أسرع من القذيفة"، لقد قدمت الهلال الاحمر في بيروت والوطن نموذجا لمؤسسات الثورة النهضوية، وهي اليوم تقوم بالدور ذاته في غزة.


آلاف الافلام انتجتها مؤسسة السينما الفلسطينية، كانت تجول مهرجانات العالم، وكانت احد الاسلحة الثقافية في معركة التحرير والاستقلال. فرق الدبكة والفنون الشعبية. المسرحيات، معارض الكتب، وفي هذا المجال اذكر دار الكرامة في منطقة الجامعة بيروت العربية في بيروت، وهي عبارة عن غاليري يعرض فيه الرسامون الفلسطينيون واللبنانيون اعمالهم. اذكر صديقي الرسام حسني رضوان الذي طالما كان هناك، جيل من الرسامين ترعرع في كنف الثورة او الى جانبها، اسماعيل وتمام شموط. محمد خليل، ناصر السومي. عدنان الشريف. سمير سلامة، سليمان منصور  نبيل العناني وتيسر بركات وعددا لا يحصى من الرسامين الفلسطينيين.
قبل ان تسأل عن الثورة والمقاومة اسأل عن مشروعها الثقافي، لا ثورة لا مقاومة لا حركة تحرر إذا كانت لا تمتلك مشروعا ثقافيا نهضويًا.