في ذلك اليوم المجيد، الذي انطلقت فيه الانتفاضة الأولى من مخيم جباليا في قطاع غزة قبل أربع وعشرين سنة، لتتحول بعد ذلك أعظم ظواهر العصر، في ذلك اليوم كنت في مدينة ( ليما سول ) القبرصية الجميلة، أشارك في مؤتمر إذاعات دول عدم الانحياز، الخبر الأول الذي تناقلته معظم وكالات الأنباء في العالم، أثار الانتباه بقوة داخل المؤتمر، حيث يحتشد هذا العدد الكبير من الإعلاميين المقبلين من عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا أيضا، وكان الانطباع الأول الذي ساد في تلك اللحظات الأولى والذي شعر به هؤلاء الإعلاميون المتميزون بحسهم المهني، أننا لسنا أمام خبر عادي، لسنا أمام حادث منقطع الجذور، بل هناك شيء جديد يتكون في رحم الأيام الفلسطينية، شيء أكبر من صدمة الغضب، وأكبر من حدود ردة الفعل القوية على سلوك إسرائيلي معربد بالغ الرداءة والغباء والعدوانية !!! إنه شيء يشبه الرسالات الكبرى حين ترسل بإشاراتها الأولى بطريقة مدهشة تتجاوز حدود المألوف !!!

وهذا ما حدث بالفعل، فقد أرسل الشعب الفلسطيني في ذلك اليوم الأول من أيام الانتفاضة قبل أربع وعشرين سنة، برقية سريعة نافذة استقبلها العالم باهتمام كبير، برقية فلسطينية خارقة تقول : أنا الشعب الفلسطيني، أعتلي المسرح السياسي كلاعب رئيسي، من فوق أرض فلسطين، وأعلن بشكل شامل رفض الاحتلال الإسرائيلي، وأعلن الاشتباك مع هذا الاحتلال الإسرائيلي على مستوى ملايين التفاصيل اليومية، اشتباك يشارك فيه الملايين من الفلسطينيين شعب هذه الأرض وأهلها، بكل أجيالهم من أكبر امرأة عجوز في جنوب الخليل إلى أصغر تلميذ مدرسة ابتدائية في أقصى شمال الضفة، أو في مخيم رفح على الحدود مع مصر .صدمت القيادة الإسرائيلية بما لم تكن تتوقع، وبما لم يكن واردا على الإطلاق بهذا المستوى في تقارير أجهزتها الأمنية الكثيرة !!! والجنرال إسحاق رابين الذي أعطى أمره العسكري الصارم لجيشه بتكسير عظام أطفال الانتفاضة، علمته الانتفاضة الفلسطينية ما لم يكن يعلم، أنضجته على نارها العجيبة المقدسة، حولته إلى رجل سياسة حكيم من الطراز الأول يرى ما لا يرى زملاؤه من قادة إسرائيل قصيري النظر أمثال الجالسين الآن في مجلس الوزراء الإسرائيلي الحالي، وأصبح من جنرال يتباهى بتكسير العظام إلى بطل من أبطال سلام الشجعان !!!

لماذا ؟؟؟

لأن رابيين وجد نفسه أنه سيكون مضحكا ومثيرا للسخرية حين يقول عن هؤلاء الملايين من أكبر شيخ إلى أصغر طفل، ومن أقوى رجل إلى أضعف امرأة، أنهم إرهابيون، او انهم يتحركون بايعاز من هذه الدولة أو تلك !!!

هذه هي روح الانتفاضة التي تسري في أوصالنا هذه الأيام، والتي تتجدد دعوتها الآن في ضميرنا وفعلنا الوطني، بما يستوعب ضرورات المكان والزمان في اللحظة الراهنة .

بعض الأصوات، وخاصة تلك التي لم تشارك بعمق في النضال الفلسطيني، ولم ترتق يوما إلى مستوى فهم رسالتهم العظيمة، وبعضها أصوات فلسطينية مع الأسف الشديد، تدعي أن المقاومة الشعبية عبر نموذج الانتفاضة هي تراجع في مستوى الكفاح !!! أو هي تخل عن الكفاح !!!

وأنا أسألهم هل الانتفاضة الأولى التي خاضها الشعب الفلسطيني قبل أربع وعشرين سنة، وغيرت قاموس حياته اليومية من الألف إلى الياء، واستنفرت ميراثه الحضاري بشكل مدهش وإعجازي، وفرضت على عيون البشرية أن ترى ملامحه الحقيقية وليست الملامح المزورة التي يرسمها له الآخرون، ونشرت رسالته العليا في الأرض بأنه يستحق وطنا، وأنه عادل في قيامة كيانه، هل تلك الانتفاضة كانت استسلاما، أو انبطاحا، أو تراجعا عن مشروع الإجماع الوطني بإعادة إحياء فلسطين دولة فوق أرضها، ودولة لشعبها، ودولة لأجيالها حين يتعاقدون مع المستقبل ؟؟؟

أسألهم مرة أخرى: هل هناك صورة أعلى وأعظم وأعمق وأصدق وأقدس من رهان الشعب الفلسطيني على نفسه ؟؟؟الانتفاضة التي شارك فيها الملايين، وأضاءت حضورا وفرحا في قلوب وعقول آلاف الملايين في المنطقة وفي هذا الكون من حولنا !!! أعرف أنه لا يمكن استنساخ الماضي حتى ولو كان قريبا على مسافة أربع وعشرين سنة، في صورة طبق الأصل، فهذا مستحيل، ولكن ما أدعو إليه بإيمان عظيم هو إعادة استنهاض روح الانتفاضة الكامنة فينا بأشكال وتجليات جديدة، كأن نطلق روح الانتفاضة ضد هذا الانقسام المعيب في حياتنا !!! أو أن نعود ونرى بعضنا قيادات وكوادر، رجالا ونساء، شبابا وشيوخا وأطفالا، ونحن نحتشد ضد الاستيطان اليهودي، ضد جدران الفصل العنصري البغيض، حيث سقطت كل جدران العنصرية في العالم، ولم يبق إلا هذه الجدران التي يزرعها الاحتلال الإسرائيلي الشاب فوق أرضنا، أقامها هذا الاحتلال لتكون مشابهة لجدران العنصرية والحقد والكراهية والخرافات البائدة الراسخة في الايدولوجيا الصهيونية !!!

تعالوا نستعيد روح الانتفاضة، ونطلق بشاراتها من جديد