حين نتحدث عن الانقسام الفلسطيني, الذي حدث منذ أربع سنوات ونصف السنة, فإننا يجب أن نكون حذرين من الغرق كليا في بعض التفاصيل التي نثرثر بها فلسطينيا طيلة الوقت, متوهمين أو مدعين أنها هي التي تقف وراء هذا الانقسام.لا أيها السادة، الانقسام الفلسطيني هو أكثر عمقا وخطورة من كل هذه الأسباب والتفاصيل المعلنة في أجواء التراشق, إنه كان وما يزال أهم بنود الإستراتيجية الصهيونية للقضاء على حلم الشعب الفلسطيني المقدس في إعادة إحياء كيانه الذي شطب ولملمة هويته التي بعثرتها الرياح العاصفة، رياح المؤامرات الدولية العاصفة, وعودة إلى النكبة الفلسطينية منذ يومها الأول الذي بدأ بقيام دولة إسرائيل, ماذا جرى؟! وكيف ارتسم المشهد المروع بسرعة فائقة؟!

لقد فقد الشعب الفلسطيني منذ اليوم الأول للنكبة قيادته, والقيادة هي واحدة من أهم مكونات وحدة الشعب !!! وفي ذلك اليوم العصيب لم يعد للشعب الفلسطيني قيادة, ولم يعد هناك قرار فلسطيني بأي مستوى فعلي على الأرض, لدرجة أن السبعمائة وخمسين ألف فلسطيني – أصبح عددهم الآن قرابة ستة ملايين – الذين غادروا مدنهم وقراهم ومضارب خيامهم التي عاش فيها أجدادهم قبل ما يزيد عن أربعة أو خمسة آلاف سنة, غادروها على غير هدى تحت تهديد الموت من قبل العصابات الصهيونية المكونة للجيش الإسرائيلي, لم يكن عندهم على المستوى الفلسطيني من يقول لهم أين يذهبون, أو كيف يغادرون, أو متى يتوقفون !!! ولم يكن لديهم أحد على الإطلاق يساعدهم بشربة ماء أو رغيف خبز أو حتى خيمة, سوى أبناء شعبهم الذين يستجيرون بهم لبعض الوقت ثم قبل أن ينقضي اليوم أو الليلة يصبحون مثلهم لاجئين.

و لقد كان المشهد مأساويا إلى هذا الحد إلى أن استقرت عملية الخروج الكارثي !!!

و هذه القضية, قضية الخروج الكبير تحت تهديد الموت, ما تزال تحتاج إلى بحث وتقص, للعثور على الحلقة المفقودة, لنعرف كيف جرى ما جرى على النحو المأساوي الذي حدث, ومع الأسف الشديد فإن ما هو موجود في المتابعات والوثائق وعمليات البحث والتقصي التي كتبها بعض مراقبي الأمم المتحدة, أو بعض ما كتبه المؤرخون الإسرائيليون الجدد, هو أكبر بكثير مما تحصل لدينا في المصادر الفلسطينية والعربية !!! وربما ما يكون كتبه عارف العارف في سفره التاريخي بعنوان «النكبة» هو وحده الذي يشذ عن هذه القاعدة, ولكن حتى عارف العارف وبحكم ضغوط المكان والزمان لم يستطع أن يلاحق ملايين ملايين التفاصيل التي تتكون منها تراجيديا النكبة الفلسطينية.

و عندما أفاق الفلسطينيون من الصدمة, فإنهم اكتشفوا بقدر هائل من الشعور بالقهر والعجز في آن واحد, أن مفرداتهم التي يستخدمونها فيما بينهم للتعبير عن أنفسهم وما لحق بهم, لا تطابق بأي درجة مع القاموس الذي يستخدمه أشقائهم العرب والمسلمون أو الذي يستخدمه بقية العالم في الحديث عنه.

فبالإضافة إلى قسوة الاتهام الذي أطلقته جهات سياسية صهيونية وعربية رسمية, وتلقفه الوعي الشعبي العربي البائس آنذاك بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم !!! وهو مصطلح مازال يطل برأسه بين وقت وآخر على لسان بعض المثقفين والسياسيين العرب الذين يستخدمونه برعونة وانعدام أخلاق وانعدام الشعور بالمسؤولية حتى اليوم !!! فإن وضع الفلسطينيين كان مأساويا لدرجة غير قابلة للتصديق !!!.

فهم في شطري القرية الصغيرة التي يفصلها سلك شائك مثل قرية بيت صفافا في قضاء القدس أو غيرها من قرى الشمال, أصبحوا جنسيتين وليس جنسية واحدة !!! ثم تطور الأمر بسقوط الهوية الفلسطينية نهائيا للفلسطينيين الذين ظلوا في أرض الوطن, فقد توزعوا رغما عنهم تحت سقف هويات أخرى !!! أما الذين في المنافي القريبة والبعيدة, فقد هربوا من واقعهم إلى ما يشبه الجنون !!! لدرجة أن مصطلح «اللاجئين الفلسطينيين» كانت تتشكل تحت سقفه درجات مختلفة جدا من التعامل القانوني, ولقد كان هناك فرق شاسع بين اللاجئين في قطاع غزة واللاجئين في الضفة الغربية, وكان هناك فرق بين هؤلاء اللاجئين بقسميهم وأبناء شعبهم الذين أصبحوا لاجئين في سوريا ولبنان, بل كان هناك فرق هائل ولا يزال بين اللاجئين في سوريا الذين تقلدوا أعلى الوظائف وكانوا قادة كبارا في الجيش السوري وبين أقربائهم اللاجئين في لبنان الذين مازالوا حتى الآن ممنوعين من ممارسة قرابة مائتي مهنة !!! وكان هناك فرق بين هؤلاء جميعا ومن أصبحوا لاجئين في مصر أو السعودية أو العراق أو دول الخليج, وكذلك الذين هاجروا إلى العالم البعيد في أوروبا والأميركيتين.

إسرائيل منذ قيامها عمدت إلى طمس معالم الهوية, عن طريق الإنكار الكامل لوجود شعب فلسطيني لا في الحاضر ولا في الماضي, وفي بعض الأحيان تقاسمت هذا الدور مع بعض جيرانها العرب, ولا قيمة في هذا الموضوع إن كان هذا التقاسم تم نتيجة الضعف أو الغباء أو نتيجة الطمع والتآمر لأن المهم هو النتيجة الحاسمة وليس النوايا.

وقد شرعت إسرائيل على الفور في ضم الأراضي التي حددها قرار التقسيم رقم 181 للدولة الفلسطينية, وشاركها جيرانها العرب في ضم حصتهم من هذه الأراضي التي من المفترض أن تقام فوقها الدولة الفلسطينية.

وكان العمل بين الإسرائيليين والعرب في بعض الأحيان منسقا إلى درجة عالية تشبه عزف سمفونية مدهشة, كان الفلسطينيون فيها يخسرون كل شيء, كيانهم, هويتهم, قيادتهم, وحدتهم, ولا يبقى لهم سوى ذكريات يلوكونها, وجراح يحتملون عذابها في صبر عظيم.

وقد واجهوا وهم في هذه الحالة مشروعا إسرائيليا ضخما بعمق دولي واسع, وهو مشروع التوطين سواء في حوض الفرات في شمال سوريا أو في صحراء سيناء في مصر !!! ولكنهم ومن خلال قيامة غير متوقعة سرعان ما أسسوا حركتهم الوطنية, وأطلقوا ثورتهم المعاصرة, وأعادوا إحياء كيانهم المعنوي الممثل بمنظمة التحرير الفلسطينية لتكون عنوانا لهم ومتحدثا رسميا وحيدا باسمهم.

و لكن المشروع الصهيوني الذي يستهدف استمرار غياب الكيانية الفلسطينية مازال موجودا, ومازال يحصل على شبه إجماع إسرائيلي ومازال يطرح بأشكال متعددة, وآخر هذه الأشكال هو نموذج الانقسام الفلسطيني القائم في الأساس على فصل قطاع غزة خارج السياق, لكي يتم توجيه رصاصة قاتلة إلى قلب مشروع إحياء الكيانية الفلسطينية, أي الدولة أي الحلم المقدس الذي لا بديل عنه.

ولذلك نقول إن إنهاء الانقسام أولوية أولى لا يتقدم عليها شيء, وهذه الأولوية يجب إنجازها بقدر كبير من الإرادة القوية العميقة الذكية, الإرادة العالمة ببواطن الأمور, الإرادة التي لا تقع في شباك بعض الرهانات البراقة الزائفة, الإرادة المؤمنة بقيامة فلسطين أولاً, وليس الأيدولوجيا أولاً.

نلاحظ اليوم أن الجنون الذي يسيطر على السلوك السياسي الإسرائيلي سببه معرفة إسرائيل أن عملية إعادة إحياء الكيانية الفلسطينية جارية على قدم وساق, وأنها تتقدم وتحتل مكانا في جدول أولويات العالم المتغير, ولذلك تسابق إسرائيل الزمن, وتفتعل المعيقات, ومن أبرز المعيقات التي افتعلتها كارثة الانقسام, ولقد خلقت إسرائيل الانقسام ووضعته في رصيدها وفكرت فيه منذ سنوات, وذللت أمامه العقبات وقدمته بصورة مغرية, وفتحت إسرائيل من خلا هذا الانقسام الأدراج المغلقة لإخراج المشاريع القديمة, ومن بينها وطن بديل للفلسطينيين خارج فلسطين موزع بين الخيار الأردني والانفجار في سيناء.

عندما أتحدث عن الإرادة الفلسطينية الواعية العميقة المسؤولة, التي تريد تجسيد حلم إعادة إحياء الكيانية الفلسطينية, فإن بعض المشاكل اليومية التي يتم تضخيمها عن عمد يجب أن تعود وتنكمش إلى حجمها الحقيقي, كعناصر عارضة, صغيرة, مهما نفخ فيها النافخون !!! فهل تقبل الإرادة الفلسطينية أن تقف عاجزة, ويهزم مشروعها الكبير الخارق على عتبات بعض الافتعالات الصغيرة التافهة مثل بند الاعتقال السياسي, أو الملف الأمني أو مماحكات صرف جوازات السفر, أو حملات استدعاء المناضلين والمناضلات من أبناء شعبنا, لتثبت الأجهزة الأمنية أنها موجودة, أو بقية التفاهات الأخرى؟

إذا طبقنا مبدأ التفهم والتفاهم الواعي الذي ساد الاجتماع الأخير بين الرئيس أبو مازن وخالد مشعل قبل قرابة أسبوعين, فسوف نجد لهذه العناصر الشائكة العارضة حلولاً, وسوف تتمكن الإرادة الفلسطينية من عزل تلك العناصر أو القوى التي تعزف على وتر هذه المشاكل الصغيرة, وتتاجر بها.

نحتاج إلى انتباه, إلى صدق وطني شجاع, إلى التقاط اللحظة حتى لا نظل غارقين في هذه الثرثرة الكريهة التي يجرنا إليها البعض لكي نبقى هكذا مقيدين بالمشاكل الصغيرة, تاركين مشروعنا الوطني الكبير يواجه المجهول, هذه دعوة وهذه أمنية وهذه مسؤولية يتحملها الجميع.