الرجولة مفهوم أوسع وأشمل من تحديد جنس الإنسان، لأن الجنس يتحدد بصفتين "ذكر" أو "أنثى" ولا ثالث لهما، وكل المفردات اللغوية المستخدمة للدلالة على الجنسين لا تتجاوز حدود "الذكر" و"الأنثى". بيد أن مفهوم الرجولة يتجاوز حدود التعريف بالجنس، ليحمل في ثناياه صفات أخرى، منها: الشجاعة، والفروسية والحكمة، وقول كلمة الحق حتى لو كانت تحمل الإنسان المصاعب وتحديات إضافية. والرجولة تشمل في سعتها المرأة والرجل على حد سواء، ولا تقتصر على الرجل فقط، لأن الشجاعة والجدارة والكاريزما والقدرة على اتخاذ القرارات في اللحظات والمحطات المختلفة، وخاصة في لحظات الشدة والصعوبة. وتبرز وتتضح مكانة الإنسان الجريء والكفؤ والمتميز والقادر والمتمكن بالعلم والمعرفة والحكمة والأمانة المرتكزة جميعها إلى القيم والأخلاق النبيلة وأصالة الانتماء للذات وللمؤسسة والوطن والشعب والأمة، والدفاع عن قضاياها دون تردد، أو تلعثم، أو حسابات شخصانية ذاتوية، أو عائلية وعشائرية، أو جهوية ومناطقية، أو دينية وطائفية ومذهبية، أو وفق أية معايير قزمية نانوية، لأن أرقى درجات الرجولة تتمثل في الدفاع عن مصالح الشعب والأمة، وتحمل تبعات التصدي لمشاريع الأعداء باقتدار وكفاءة وشموخ، ولكن دون غرور، أو نزق، أو استصغار لدور القوى الاستعمارية المتجبرة وأدواتها.
والحديث عن الرجولة والكفاءة في أعلى مستوياتها، لا ينتقص من دور الرجولة في المستويات الأدنى، بدءا من دفاع الإنسان عن مكانته ودوره وقناعاته الخاصة، وعن خياراته الحياتية، وعما يمثل، أو ينتمي له، وصولا لأعلى درجات الرجولة. لأن الإنسان الباسل ومالك الكاريزما ومفاتيح القيادة يربأ بنفسه، أن يكون انتهازيا، أو رخيصا، وبائعا لذاته، أو منافقا وتافها ومتهافتا، إلا أنه بالضرورة سيكون مناورا، ومبدعا في تدوير الزوايا، وحريصا على كسب معاركه الشخصية والعامة بأقل الخسائر، ودون تقديم تنازلات مجانية من رصيده، أو رصيد شعبه أو أمته، وفق الموقع والمكانة التي يتمثلها، ويدافع عنها.
كل ما تقدم له شديد الارتباط بما تضمنته توجيهات الرئيس التونسي، قيس سعيد لسفرائه الأسبوع الماضي الشجاعة والنبيلة، التي ربط فيها بين المصالح الوطنية التونسية والقومية العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين وقضايا الشعوب المنكوبة والمظلومة بسبب هيمنة وظلم الدول الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة، التي ترفض من حيث المبدأ وجود قيادة مستقلة، ومدافعة عن مصالح شعبها وأمتها والإنسانية ووفق قوانين الشرعية الدولية، حيث دعا سفراء بلاده إلى "التعامل بالند للند، لأنهم يمثلون دولة ذات سيادة"، وطالبهم في قصر قرطاج بالعمل على تحقيق مصالح تونس في جميع المجالات، دون تردد، أو خشية أو تنازل عن مكانتهم السيادية التي يمثلونها باسم الشعب العربي التونسي. وحملهم مسؤولية "التصدي لحملات التشويه، التي تطال الدولة التونسية من دوائر الغرب الاستعماري، التي لا تقبل أبدا بوجود أي نظام وطني، أو قومي أو ديمقراطي يدافع عن سيادته ومصالح شعبه وأمته.
ولم تقتصر تعليماته ووصاياه لسفرائه عند حدود القضايا الوطنية التونسية، وإنما أوصاهم ببسالة وفروسية ونبل أخلاق وحكمة القائد بالدفاع "عن القضايا العادلة" كل القضايا العادلة في العالم. لأن تونس التي يقف على رأس هرمها القيادي "تعمل من أجل نظام عالمي إنساني جديد،" عالم يقوم على التكافؤ والتسامح والتعاون بين الشعوب والدول، يعيد الاعتبار لمكانة الشعوب المظلومة، التي تتألم تونس لآلامها وآلام "كل مظلوم في الأرض."
وركز الرئيس سعيد على الدفاع عن الحق القومي العربي المتمثل في ضرورة "الدفاع عن الحق الفلسطيني في كل لقاء، وفي كل محفل يكونون فيه،" رغم إشارته لهم، بأن لدولة فلسطين سفراءها. لكن حق فلسطين على الأشقاء العرب يتجاوز الحسابات الوطنية، ويضاعف ويعمق من مسؤوليات السفراء والقيادات العربية الرسمية والشعبية في المحافل الإقليمية والدولية، ويدعوهم للنهوض بمهامهم الوطنية والقومية، لأن قضية فلسطين، هي "القضية المركزية للأمة العربية والأمة الإسلامية،" وهي قضية كل أنصار السلام والعدالة في العالم. ولأن للشعب العربي الفلسطيني "الحق في أرض فلسطين المسلوبة" أرض وطنه الأم، الذي لا وطن له سواه. معربا عن أمله في "أن يحقق الشعب الفلسطيني الانتصار" على أعداء الداخل والخارج وخاصة العدو الصهيو أميركي، وتمنى "أن تقوم دولة فلسطين وتكون عاصمتها القدس الشريف."
هنا تجلت رجولة الفارس العربي التونسي الأصيل في الدفاع عن تونس وشعبها ومصالحها الوطنية، وبذات القدر بالدفاع عن فلسطين العربية، رأس القضايا القومية المنكوبة بالاستعمار الصهيوني منذ 75 عاما، وعن قضايا الأمة كلها. رغم أنه يعيش في زمن الانهيار والانكفاء العربي الرسمي على الذات، ومع أنه يعيش في دوامة أزمات متشعبة، ويعي معاناة شعبه من حملات التشوية والتحريض والفتنة ضده وضد تونس المستقلة والسيدة من أعداء الداخل، الذين أثقلوا وزادوا ديون تونس مئات المرات، ووسعوا دائرة الفتنة داخل النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي، وحاصروا الشعب بكم هائل من الإربكات والتشوهات والتناقضات، ومن أعداء الخارج وعلى رأسهم واشنطن وباريس ومن لف لفهم من دول الغرب الرأسمالي، وحدث ولا حرج عن ربيبة وصنيعة الغرب الاستعماري، دولة المشروع الصهيوني الإجلائي الإحلالي.
مع أن الرئيس التونسي يعلم علم اليقين، أن أي موقف داعم لاستقلال تونس، ولقضية فلسطين القومية تحديدا يضعه وشعبه في دائرة الملاحقة والمواجهة المباشرة مع أعداء الأمة في الداخل والخارج. لكنه لم يهادن، ولم يطأطئ الرأس، ولم يساوم على الحقوق الوطنية والقومية، واستند إلى الحقوق السياسية والقانونية إضافة إلى الحقوق التاريخية للشعب العربي الفلسطيني في أرض وطنه الأم، فلسطين. وكان بإمكان الرئيس سعيد، أن يعفي نفسه من أعباء القضايا الوطنية والقومية لو ارتضى اعتماد مقولة "ضع رأسك بين الروس وقول يا قطاع الروس"، أو اتبع سياسة وخيار "وأنا مالي، اللهم إلا نفسي." لم يقبل ذلك، وتحدى بحكمة وجدارة وجرأة كل الأعداء.
شكرا للرئيس قيس سعيد، التونسي العربي المناضل الوطني والقومي، وشكرا لكل قومي دافع ويدافع عن قضايا شعبه وأمته دون خشية من أعداء الامة العربية. لإن أعداء كل بلد وشعب عربي، هم أعداء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها