ليس غريبا أن تكون هذه هي مآلات إسرائيل بعد تأسيسها بـ75 عاما، فالخلل هو في البذرة، بالفكرة المؤسسة، واليوم يحصد العلمانيون والليبراليبن واليسار الصهيوني ما زرعوه هم بأيديهم، عندما أسسوا إسرائيل انطلاقا من فكرة عنصرية، فكرة هجينة، هي خليط بين ما هو ديني وقومي علماني وإشتراكي لكنها بالأساس عنصرية، لأنها ترفض قبول الآخر الفلسطيني وقبول حقوقه وتاريخه الطويل على هذه الأرض. فالصهيونية ذات المنشأ الأوروبي استخدمت الأساطير الدينية بهدف اختراع الشعب اليهودي، اختراع قومية من الدين، واليوم تسيطر عليها هذه الأساطير وتختفي المعايير العلمانية والديمقراطية الأوروبية وتتحول الى دولة ماضوية عمياء مغلقة على نفسها.
إسرائيل التي يريدها سموتريتش، هي على شاكلة دولة داوود القديمة المتخيلة، تدار وفق الشرائع التوراتية القديمة مع مسحة عصرية غير واضحة، إلا أن هذه الدولة في المحصلة غير ديمقراطية، أي دولة دينية منغلقة على نفسها.
سموتريتش، وهو وزير للمالية في الحكومة الإسرائيلية الراهنة والزعيم السياسي للصهيونية الدينية، هو أحد أهم وأخطر المتطرفين الذين يقفون وراء الانقلاب الذي يجري اليوم في إسرائيل على السلطة القضائية، وبالتالي على الديمقراطية.
وفي نظر معارضيه، فإن سموتريتش شخص ذكي وخطير، لأنه يخطط بعناية وعناد وإصرار لكل خطواته والتي ستقود في النهاية إلى تجريد إسرائيل من الورقة الإيجابية الوحيدة لها بكونها دولة يهودية وديمقراطية، حسب "مؤسسيها"، فهو يجردها من ديمقراطيتها لتصبح دولة لا تعترف بالقانون الوضعي وإنما تتحكم بها الشريعة اليهودية البحتة. فما يريده سموتريتش دولة يهودية "نقية"، فما الذي يميزه في ذلك عن النازية التي كانت سببا لاضطهاد اليهود في أوروبا. إن أفكار هذا المتطرف هي من ذلك الجزء الأكثر ظلمة في التاريخ الإنساني.
أما دولة وزير الأمن الداخلي بن غفير فهي دولة أبارتهايد بامتياز ومن دون أية مواربة، هذا إذا لم ينجح في تشريد القسم الأكبر من الفلسطينيين وتنفيذ نسخة جديدة من خطة "دالت"، الخطة التي نفذها بن غوريون للتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني خلال حرب العام 1948، والتي شرد خلالها أكثر من 800 ألف مواطن فلسطيني والمسؤول عن حرق وتدمير 500 قرية فلسطينية.
وبن غفير لا يختلف كثيرا عما يصبو إليه سموتريتش، فجميعهم يصرون على الدولة اليهودية العنصرية، دولة من دون الفلسطينيين، وغير ديمقراطية، وتعتمد الشريعة اليهودية.
أما دولة الأحزاب الحريدية (الأحزاب الدينية الأرثوذكسية المتشددة)، فهي أسوأ من دولة طالبان في أفغانستان بكثير، يعيش فيها الرجال والنساء بشكل منفصل تماما، وتكون فيها المرأة مقيدة ممنوعة من اختيار ما تريد من نمط حياة، وحال الرجال في الدولة الحريدية ليس بأفضل بكثير. فهذه الدولة أكثر تخلفا وانغلاقا، دولة القطيع التي تحدد فتاوى الحاخامات كل نَفَسٍ وحركة لها ولا رأي فيها للفرد. وبهذا الشأن فقد دقت حادثة الباص التي تناولتها وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا في منطقة الأغوار جرس الإنذار، عندما أمر سائق الباص فتيات بعمر 15 و16 عاما بستر أنفسهن بقطع قماش، وهو ما اعتبر تدخلا في الحرية الفردية.
هذه القصة كان يمكن أن تمر، وأن تفسر بأنها تصرف شخصي منعزل من السائق لو لم تكن هناك دعوات ومطالبات من الأحزاب الدينية بسن قوانين تفصل في المناطق العامة بين الرجال والنساء. فالدولة التي ينادي بها المتدينون هي دولة أصولية مستوردة من زمن ليس موجودا إلا في مخيلتهم المريضة، حتى في دولة داوود المتخيلة لم يكن مثل هذا الفصل، وكأن من كتب نشيد الإنشاد، وهي واحدة من أجمل قصائد الحب، والتي استعار الرحابنة منها أغنية فيروز "أنا لحبيبي وحبيبي اللي". وكأن من كتب نشيد الإنشاد التوراتي ليس يهوديا من ذلك الزمان، ولكن الأصوليين هم الأصوليون في كل الأزمان والأديان، انتقائيون ولا يختارون إلا ما هو مظلم من الماضي.
دولة سموتريتش وبن غفير ودولة الحريديم تلتقي جميعها بأنها دولة أصولية عنصرية عمياء كارهة للآخر، ليس الآخر الفلسطيني وحسب، وإنما للآخر اليهودي الليبرالي واليساري والعلماني وكل من يخالفهم الرأي، وبالتأكيد هذه الدولة ليست ديمقراطية ولا تمت للانفتاح والحوار بصلة. هكذا دولة خطيرة على الفلسطينيين، وعلى البشرية جمعاء، على الجميع مواجهتها والوقف في وجهها. ربما من هنا تأتي أهمية مشاركة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر في الاحتجاجات والتظاهرات بكثافة، فهزيمة هذا التيار الفاشي يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، ومن شأنه أن يساعد في مواجهة العنف والجريمة داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل، كما يمكن أن تحشد الجهود بشراكة مع القوى اليساريين والليبراليين اليهود بهدف إلغاء قانون يهودية الدولة، لأنه رمز هذا النمط العنصري لدولة المتطرفين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها