"حاربت ترامب أربع سنوات والقدس عربية غصبًا عنه.. ما بنتنازل عنها" ...تبدو لنا جملة سيادة الرئيس أبو مازن بالمحكية الشعبية خلاصة وافية لخطابه التاريخي، على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة التي قررت إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية لأول مرة في تاريخها، فدونالد ترامب الذي حكم الولايات المتحدة الأميركية خلال الفترة من 2016 إلى 2020 يعتبر انعكاسًا طبيعيًا ونموذجًا لحكام الدول الاستعمارية، التي تعاملت مع  دول وشعوب في العالم كمزارع عبيد، تحدد أشكال الحياة والموت فيها بما يحقق مكاسبهم وديمومة مصالحهم، وكل ذلك على حساب الحقوق  التاريخية والطبيعية للشعوب ، وأهمها الحرية واستقلالية قرارها، فحاكم الولايات المتحدة ترامب الذي نعرفه ببلفور الثاني استكمل جريمة دولته الاستعمارية العميقة (الولايات المتحدة) بالشراكة في التخطيط والتنفيذ مع دولة الانتداب على فلسطين بريطانيا العظمى المعروفة منذ سنة 1917 بـ (وعد بلفور) عندما قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لمنظومة الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي والعنصرية الوحيدة الباقية على وجه الكرة الأرضية، ومنح المستخدمين الصهاينة لدى المشروع الاستعماري حق الاستيلاء بقوة الاحتلال العسكري والاستيطاني على أرض الشعبين الفلسطيني والسوري في القدس والجولان .. وبذلك يكون سيادة الرئيس أبو مازن قد وضع النقاط على الحروف، وحدد المسؤولين تاريخيا وحاليا عن نكبة الشعب الفلسطيني التي بدأت قبل سنة 1948 بكثير وما زالت مستمرة حتى اليوم  بسبب نهج الدول الاستعمارية التي قررت إنشاء قاعدة عسكرية متقدمة على شكل دولة سميت إسرائيل! تم تسويقها كواحة للديمقراطية، لكن وفي الغرف الخاصة منح رؤوسها منذ هرتزل وبن غوريون وحتى نتنياهو اليوم الضوء الأخضر والغطاء السياسي لارتكاب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بلا حدود، حتى باتت هذه  (الإسرائيل) وصمة عار على جبين الإنسانية، تصر دول استعمارية على توفير شبكة أمان لها تحميها من المساءلة والمحاسبة، وتبقيها دولة خارجة على القانون الدولي، وتعطل تطبيق نصوصه على مجرميها الذين يعيدون سيرة البشرية الهمجية بالغزو والاحتلال والتدمير وسفك الدماء، ويجسد وزراء هذه (الإسرائيل) كبن غفير وسموتريتش صورها في القرن الواحد والعشرين! برئاسة بنيامين نتنياهو الذي ظهر شخص الدكتاتور علنًا في كيانه الشخصي، بمحاولاته تطويع كل السلطات لمشيئته بما فيها القضاء، حتى شكل إحراجًا لحكام دول استعمارية روجت وما زالت لديمقراطية إسرائيل!.

خطاب سيادة الرئيس أبو مازن في السنة 75 من النكبة كان أبلغ من بحث في التاريخ، وأشمل من رسالة باحث عن الحق والحقائق، فالفلسطيني اللاجئ الذي تكلم باسم 14 مليون فلسطيني وقالها صريحة :"بدي صفد" -مدينته الفلسطينية التي ولد فيها- سيؤدي إلى وضع الولايات المتحدة وبريطانيا عالميًا في موقع المسؤولية التاريخية والقائمة حتى الساعة عن نكبة الشعب الفلسطيني، وسيحمل الأمم المتحدة والشرعية الدولية المسؤولية عن عجزها في تنفيذ وتطبيق قرار واحد من 1000، ذات علاقة بفلسطين، على رأسها القرار 181 الذي منح الشعب الفلسطيني حق قيام دولة على 44% من أرض وطنه التاريخي سنة 1947، وكذلك القرار 194 الذي قضى بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم وبيوتهم وديارهم في وطنهم فلسطين، وعن أسباب استمرار عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، رغم أنها كانت مرتكزة على شرط تنفيذ تعهدات وزير خارجيتها (شاريت) المكتوبة بخط اليد بتطبيق الاعتراف بدولة فلسطين حسب نص القرار181.

 سيادة الرئيس أبو مازن سأل العالم عن مكانة المنطق والعدالة والأسس القانونية في وعد بلفور الأميركي- البريطاني بوصفهما الشعب الفلسطيني بالسكان غير اليهود؟! وتكريسهما على أرض الواقع الرواية الصهيونية الكاذبة : أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأجاب الرئيس مركزا على جوهر القضية وأسباب الصراع القائم منذ أكثر من مئة عام عندما قال :"إن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تتحملان مسؤولية مباشرة عن النكبة عندما قررتا إنشاء كيان آخر على أرض فلسطين".

 تحديد سيادة الرئيس أبو مازن أسماء دول استعمارية كبرى مسؤولة تاريخيًا عن النكبة الفلسطينية، لم يكن اكتشافًا حديثًا، وإنما معرفة مسنودة بقراءة بحثية علمية عميقة لسياسات الدول الاستعمارية، والأحداث، وعملية تكوين المشروع الصهيوني، باعتبارها الخلفية اللازمة للمناضل القائد في حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، ليتمكن من توجيه بوصلة الكفاح والنضال في الميادين كافة، وتحديدًا في ذات ميدان المجتمع الدولي، حيث منحت فيه منظومة الإرهاب والمجازر (صك الدولة)!

تساءل سيادة الرئيس ولم ينتظر الإجابات، وإنما قدمها لأنه يعلمها ويعرفها ويدركها جيدًا، مثل مقولة "الدفاع عن النفس" التي تتخذها إسرائيل ستارًا للعدوان والمشاركة في حروب الدول الاستعمارية (العدوان الثلاثي) على مصر واحتلال قطاع غزة آنذاك، وتتخذها اليوم لتبرير إرهابها وجرائمها وحملاتها العسكرية على الشعب الفلسطيني، أما قناع الديمقراطية الملصق بغراء استعماري متين بوجه إسرائيل، فقد أسقطته "منظمات الأمم المتحدة التي اعتبرت إسرائيل دولة تطهير عرقي أبرتهايد وفصل عنصري " كما قال سيادة الرئيس.. أما وسم الديمقراطية بالاحتلال والاستيطان والعنصرية وجرائم الحرب وبالجرائم ضد الإنسانية، فهذه جريمة تنفذ على قدم وساق أراد سيادة الرئيس من الدول والشعوب اليقظة حياله، لأنها إذا مضت بغير محاسبة ستنسف وتبدد المعاني والنظريات النبيلة التي أبدعتها الإنسانية، وتقضي على أملها بنشر الحق والسلام منطق التعايش بين الأمم . فقد قال سيادة الرئيس :"إسرائيل التي تعتبرها الدول الاستعمارية دولة ديمقراطية ارتكبت النكبة بحق شعبنا وتحتل أرضنا .. "ولعل 40% من الشباب الأميركيين اليهود الذين يعتبرون إسرائيل دولة عنصرية تميز بين مواطنيها بالقوانين وتمنح المواطن اليهودي حقوقًا حصرية برهان عملي مادي مؤكد.

لقد وضع سيادة الرئيس أبو مازن منظومة الاحتلال العنصرية الفاشية (إسرائيل) تحت المجهر، وكشف حقيقتها للعالم بأنها ليست أكثر من أداة تنفيذية لمشاريع دول استعمارية - الولايات المتحدة وبريطانيا – وأن هذا الثلاثي مسؤول تاريخيًا عن النكبة، وأن ادعاءات (إسرائيل) بالاستقلال ، إحدى صفحات (موسوعة الكذب الكبرى) التي يعتمدها الثلاثي للإطباق على وعي شعوب العالم، وهنا تساءل سيادة الرئيس :"من كان يحتل إسرائيل؟! استقلال عمّن؟!  الحقيقة أن المحتل البريطاني أتى بهم ومنحهم دولة"!.