بلى، ثمة أسماء بهيجة، هي مدن وأكثر، وممالك وأكثر، هي حقول خصب لا تنتهي خضرتها وألوانها، لأنها ارتوت من ينابيع آيتها الري العميم، ولأنها روت أسطرها بالضوء الجلي طوال عمر من سهر لغوب، وتعب جميل، وحفر معرفي دار حول المعاني العصية دورة العارف بأسرار الحضارة، وقدسية الجمال.
من هذه الأسماء التي أدهشت كل عارف بها، سلمى خضراء الجيوسي، وذلك لسعة علمها، وصفوة المعرفة التي أنتجتها، وخلوصها للبلاد الفلسطينية العزيزة، وللدروب الرزينة التي مشتها، وهي تباري نهر الأردن كضفة ثالثة، وبيارات البرتقال كطعوم مضافة، وحقول عباد الشمس قرب طبريا كعين روائية.
سلمى خضراء الجيوسي، في السيرة والعطاء، هي اختزال مكين لمشروع جليل عاشته بطاقة ورشة، أو جامعة، أو مختبر للترجمة، أو دارة علم لم تعرف النضوب حتى الساعة الأخيرة من حياتها، فهي صاحبة مشروع لم تستطع القيام به والعمل عليه وزارات الثقافة العربية مجتمعة، منذ تأسيسها، وحتى اليوم، وهو مشروع نقل الثقافة العربية، بوجوهها المتعددة، إلى اللغات الأجنبية، وفق معايير وأسس لا يخترمها الطيش أو يلفها الارتجال أو المحابة، وقد نقلت الجيوسي ألوانًا من الثقافة العربية بعد دراستها وتمحيصها وتقدير جدواها، فكانت خير سفير للثقافة والإبداع العربيين.
إن اقتحام سلمى خضراء الجيوسي لهذه المهمة الخطيرة، كان بسبب وعيها بأن الثقافة العربية، والآداب جزء منها، بلا صوت حقيقي يعبر عنها في اللغات الأخرى، وأنها متروكة للاستشراق وأنفاسه من جهة، وللاستشراق وأمزجة أهله من جهة أخرى، ولهذا قدمت الشعر العربي، وباللغة الانكليزية، وعبر فترات زمنية متعددة ومختلفة، بما يليق به بوصفه كتاب العرب الفخيم الذي باح بأسرار حضارتهم وعمرانهم، وأجيالهم الإبداعية، كما قدمت الإبداع العربي، شعرًا ونثرًا، وفي فترات زمنية متعددة، ومذاهب إبداعية مختلفة، لتقول للعالم ،وعبر اللغة الانكليزية، هذه هي صولة الإبداع العربي، وهذه هي تحليقاته الجمالية.
كما أنها قدمت العقل العربي، وهو في أوج تألقه حين وعى أهمية المدارس الفنية التي عاشتها الآداب والفنون في العالم طوال قرن من الزمن الجميل الذي جعل الإبداع واشتقاقاته غابة من الجمال المضيء.
ولم يكن هذا ليكون لـ سلمى خضراء الجيوسي لولا معرفتها المكينة بالثقافات العالمية، والثقافة العربية، ومعرفتها بأصداء استقبال ثقافات العالم للثقافة العربية، ولولا حسها السليم بقبول كل تيار أو مذهب أدبي أو فني جديد له صدقيته ومكانته الوازنة.
لقد عاشت سلمى خضراء الجيوسي قرنًا كاملاً، ليس من سنوات الزمن فحسب، بل عاشت قرنا كاملا من المعارف الثقافية متعددة الأقطاب فواقفت المدارس الأدبية والفنية، فأخذت بأحسن ما فيها وكرزت له، وجالست الكتب بلغات أهلها، فاستخلصت لأهل الثقافة العربية لباباتها، ولهذا ليس من السر في شيء، إن قلنا إنها كانت هي وراء ترشيح الروائي العربي العالمي نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل، لأنها قدمت ملخصات ضافية للأكاديمية السويدية عن أهم مبدعي العرب ، وقد وضعت نجيب محفوظ على رأس قائمة كتاب السرد، ومحمود درويش وأدونيس على رأس قائمة كتاب الشعر، وما زال المشرفون على جائزة نوبل، يقرؤون في كل عام، ما قالته سلمى خضراء الجيوسي عن مبدعي الثقافة العربية.
أقول هذا الآن، وقد هزني خبر رحيلها، على الرغم من تقدمها في السن (1928- 2023)، فقد كانت شقيقة الزمن، وشقيقة الاشتقاق الأبهى لشجر الخروب بطعومها الحلوة؛ شجر الخروب الذي يسور ضفاف نهر الأردن ويغني له، وكانت الفصل الخامس لحياة المجد والعطاء والتفرد، لأنها من فصيلة الذهب العتيق الذي تعرف قيمته جبال عيبال، والكرمل، وقرنطل.
عاشت سلمى خضراء الجيوسي، ابنة صفد، حياة موارة بالعلم والمعرفة والإبداع بلغتنا، وحياة غنية بلغات العالم الأخرى، وقد حازت على كل تصفيق يليق بمدونتها المعرفية، فكانت اسمًا بهيجًا من الأسماء التي ظللها غيم بلادنا العزيزة، مثلما كانت مدينة للثراء المعرفي لا تشبهها مدينة أخرى، ولا يناددها عقل معرفي آخر من أبناء جيلها لأنها كانت نورانية في القول، والخطو، والحبر.. أيضًا!
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها