توقفت في هذه الزاوية مرات عدة، وتحدثت عن المناورة والمساومة في الصراعات المختلفة الداخلية والخارجية، وأكدت على ضرورة خوض غمار المساومات، وربطها بالأهداف التكتيكية والاستراتيجية. لأن قيمة وأهمية كل مساومة تتمثل في نتائجها، ومدى نجاحها في تحقيق ما يصبو إليه صانع القرار. مع ضرورة الإدراك، أن هناك مساومات مقبولة، وهناك مساومات مرفوضة، لأن الأخيرة تكون نتائجها أكثر كلفة من مردودها وربحها، أو فوائدها، وبالتالي هي مساومات خاسرة وفاشلة. 


من نافل القول، ليس بالضرورة أن ترضي المساومات المزاج العام للشعب. لأن الجماهير لا تلم بمختلف مناحي اللعبة السياسية، ولا تملك خلفيات ودوافع هذه المساومة أو تلك، وهنا يحتاج القائد السياسي أو العسكري أو الحزبي أو النقابي إلى إطلاع حاضنته الشعبية على خلفيات وركائز مساومته بخطوطها العامة، لتتحمل معه تبعات المناورة، وحتى تتمكن من التصدي للقوى الداخلية أو الخارجية المتربصة، ولقطع الطريق على الخصوم والأعداء.

وبالتالي لا يجوز لأي مستوى قيادي تغييب الشعب أو النخب العسكرية والحزبية أو النقابية عن دوافعه للانخراط في دوامة هذه المناورة أو تلك المساومة. كما أن هناك مساومات ومناورات، حتى لو ادركت الجماهير خطوطها العريضة، فإنها ترفضها، ولا تقبل بها من حيث المبدأ، لأنها إكتوت ألف مرة من ذات الجحر، وأكدت التجربة المريرة فشل وإفلاس الرهان على تلك النماذج من المناورات. لأنها محفوفة بالمخاطر، وكون الشعب إكتوى بنيران نتائجها، ودفع من لحمه الحي وحقوقه السياسية والقانونية أثمانًا باهظة، وبات (الشعب) يعاني ويكابد من مجرد طرح فكرة الرهان على أية مساومات من هذا الطراز. 


والنموذج الأخير ينطبق على لقائي العقبة في 26 شباط / فبراير الماضي، وشرم الشيخ في 19 اذار/ مارس الحالي (2023) الذي جمع ممثلو القيادة الفلسطينية مع ممثلي إسرائيل تحت الرعاية الأميركية ومشاركة كل من الشقيقتين مصر والأردن، وكلا اللقائين جاءا بعد صعود حكومة الترويكا الأكثر فاشية: نتنياهو، سموتيريش وبن غفير، وبعد ثلاثة عقود من التوقيع على اتفاقيات أوسلو الانتقالية والمحددة زمنيًا بخمس سنوات، التي وقع عليها في البيت الأبيض في 13 أيلول / سبتمبر 1993، وبحيث تفضي بعد ذلك للانتقال للمرحلة النهائية مع العام 1999، ويكون الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي انهيا المفاوضات بشأن الملفات الستة الأساسية: القدس، اللاجئين، المستعمرات، الحدود والامن والثراوت الطبيعية والأسرى، وتكون الدولة الفلسطينية رأت النور بكامل سيادتها على أراضيها المحددة والتي احتلت في الخامس من حزيران / يونيو 1967. 


لكن أي من تلك الأهداف لم يتحقق، وبقيت القيادة الفلسطينية تخضع للابتزاز والضغوط الأميركية والإسرائيلية ولبعض الأنظمة العربية المتساوقة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة. ليس هذا فحسب، بل قامت إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة بمسخ صورة السلطة الفلسطينية، وتبهيت مكانتها في أوساط شعبها، وكشفت ظهرها مرة تلو الأخرى. ولم تكتف تلك القوى بدورها التحريضي المسيء للسلطة ولمنظمة التحرير مرجعيتها، إنما انتجت قوى داخلية فلسطينية تلفعت بالثوب الديني الإسلاموي، نموذجها حركة حماس الإخوانية، لإشعال نيران التناقضات الداخلية، والذي وصل لحد الانقلاب على الشرعية في أواسط عام 2007، وإقامة إمارة حمساوية، أسهمت حتى الان بتمزيق وحدة الصف، وتشويه دور الممثل الشرعي والوحيد، منظمة التحرير، وحالت وتحول دون عودة اللحمة والوحدة الوطنية، ليس هذا فحسب، بل اطلقت ذبابها الاليكتروني، وأبواق أعلامها التخريبي لتعميق الانقسام والانقلاب داخل صفوف الشعب. 


وللأسف الشديد، تدرك قيادة منظمة التحرير تلك الألاعيب كلها، وتدرك انه لا يمكن الرهان على الولايات المتحدة، وتعلم علم اليقين، إن إسرائيل الفاشية القائمة على الأبرتهايد والتطهير العرقي ليست معنية باية اتفاقات ابرمت معها، وأدارت ظهرها منذ أعلن إسحق رابين في عام 1994 "لا تواريخ مقدسة لإعادة الانتشار والانسحاب"، و" لا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967". و "ستبقى القدس عاصمة موحدة لإسرائيل" و"لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم وفق القرار الدولي 194".

و"لا لإزالة المستعمرات"، ثم شرعت القوانين النافية كليًا لأي حقوق للشعب العربي الفلسطيني في أي بقعة من أرض وطنه الأم فلسطين، وخاصة قانون "القومية الأساس للدولة اليهودية" الذي تلازم مع صفقة القرن الاجرامية، التي قادها الرئيس الأميركي السابق ترامب، وبدأها بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل في السادس من كانون اول / ديسمبر 2017، وما تلاها من خطوات، ورافق ذلك تنامي الاستيطان الاستعماري منذ أوسلو للآن اكثر من خمسة مرات عما كان عليه قبل تلك الاتفاقات المشؤومة. 


ومع ذلك، واصلت قيادة المنظمة طريق المناورات والمساومات بهدف تجاوز عمليات التصفية الكلية للقضية والمشروع الوطني، وللمحافظة على بقاء المسألة الفلسطينية على طاولة المنابر الدولية والإقليمية، وجزءًا من الجيوبوليتك العربي والإقليمي، ولم تستخدم كل أوراقها، واكتفت باستخدام جزءًا من الورقة الأممية والعلاقات الديبلوماسية للمحافظة على الكيانية الفلسطينية، وحققت أهدافًا سياسية وقانونية هامة، منها الاعتراف بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة في 29 تشرين ثاني / نوفمبر 2012، وغيرها من الأهداف التكتيكية. لكنها لم تستثمر أوراق القوة الموجودة بيدها، ومنها بقاء المقاومة الشعبية في حدودها الضيقة، وعدم تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي منذ (😎 سنوات خلت، وعدم حسم ملف الوحدة الوطنية، وعدم التمكن من إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وحتى عدم انتظام عقد دورات اجتماعات الهيئات القيادية لمنظمة التحرير وخاصة المجلس المركزي، الذي فوض بالإنابة عن المجلس الوطني، وحصر إتخاذ القرارات بنخبة محدودة، وعلى حساب اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة، القيادة اليومية للشعب العربي الفلسطيني... إلخ 


ونتيجة إدراك العدو الصهيوأميركي بحدود وسقف المناورة الفلسطينية تغول أكثر فأكثر، واستباح الدم والمصالح والحقوق الوطنية على مختلف الصعد والمستويات، ومع عقد اجتماع العقبة يوم الاحد الموافق 26 فبراير 2023 قامت العصابات الفاشية الصهيونية بحرق حوارة، ردًا على نتائج القمة الواهية، وردًا على قمة شرم الشيخ أول أمس الأحد (19/3) باتت حوارة ثكنة عسكرية بذريعة الخشية من قطعان المستعمرين الصهاينة، وأعلن ردًا عليها (قمة الشرم) سموتيريش "إن لا وجود للشعب الفلسطيني، وهو شعب مخترع!" وبالتالي لم يكن مبدأ الذهاب للقمتين مقبولاً فلسطينيًا، وجاءت النتائج دون مستوى الطموح، ولم يحصل الشعب الفلسطيني إلا على فتات من أموال الشعب المنهوبة، وسياسيًا صفر، لأن ما تضمنه البيان الختامي يكشف المردود الصفري للقمة. مع أن أميركا تستطيع أن تفرض على إسرائيل الانسحاب الفوري من الأرض الفلسطينية، ولكنها لا تريد.

لأن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تحل يوما قضية من قضايا الأزمات التي تولت رعايتها، بل إدارت تلك الأزمات، فما بال القيادة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وبالتالي شخصيًا أتفهم خلفيات المشاركة، ولكني أرفض مبدأ المشاركة، ولا بد من إعادة نظر في آليات التعامل مع الحكومات الإسرائيلية ومع الإدارات الأميركية بما يخدم التوجهات الوطنية، وبعيدًا عن اللغة الشعاراتية، ولكن دون الهبوط إلى ما دون تلك المصالح الوطنية العليا.